قراءة في مذكرات أرييل شارون 2-2
قراءة في مذكرات أرييل شارون
عرض: محمد علي شاهين
الحلقة: (2 من 2)
ليس من اليسير قراءة الأحداث الخطيرة على أرض فلسطين قراءة واعية دون الرجوع إلى سيرة رئيس وزراء إسرائيل السابق (آرييل شارون).
ومن أجل ذلك رجعنا إلى السيرة الذاتية (لآرييل شارون) التي حررها بالعبرية (دايفد شانوف) ونقلها من الفرنسية إلى العربية أنطوان عبيد، والمنشورة عام 1992 في بيروت في 766 صفحة.
ونظراً لأهميتها قمنا باختصارها دون إخلال بمبنى المذكرات ومعناها، ونشر الحلقة الأولى في العدد الماضي من (مجلة الغرباء)، ونشر الحلقة الثانية والأخيرة من هذه المذكّرات.
_________________________________________________________
كانت حرب الاستنزاف، والحدود الأردنية، وقطاع غزة، تمثل بؤر العنف الثلاث التي تشكل تحدياً لي بعد تعييني قائداً لمنطقة الجنوب العسكرية، في نهاية عام 1969.
البؤرة الأولى: حرب الاستنزاف :
كان جنودنا على امتداد القناة يواجهون الموت باستمرار، وفي غياب نظرة شاملة وبعيدة المدى وجدت قواتنا نفسها معرضة للنيران المصرية من دون حماية أو ملجأ، فقررت من تلقاء نفسها بناء المعاقل، واتسعت الإنشاءات الدفاعية مع مرور الوقت، وغدت مصطنعة أكثر فأكثر متحولة إلى خط محصن حقيقي.
وعندما تعرضت مواقعنا لنيران المدفعية الثقيلة، وتكبدت قواتنا خسائر جسيمة، تمخض النقاش حول الدفاع عن سيناء، عن بناء اثنين وثلاثين موقعاً محصناً، يكون كل منها قلعة صغيرة قادرة على الصمود في وجه القذائف المصرية، وصرفت أموال طائلة لبناء شبكة دفاعية على امتداد القناة تتضمن غرفاً محصنة، ومزالق للدبابات، ومخازن للتموين والذخيرة، إلخ ؛ هذا النظام الذي كان من المفروض أن يؤمن لنا السيطرة على الممر المائي، والذي عارضته، ودعوت للاستعاضة عنه بمواقع دفاعية على التلال الواقعة إلى الشرق، ومن الطبيعي القول أن لا نية عندي للتخلي عن أفكاري (ويقصد نقد خط بارليف) بل سأستمر في بثها حتى تنتصر.
وخلال السنوات الثلاث لحرب الاستنزاف، انشغل جنودنا بإصلاح الأضرار وتحصين المواقع التي دمرتها المدفعية، وكلفتنا الكمائن والغزوات ضد دورياتنا أرواحاً غالية جداً، وعندما تم وقف إطلاق النار في آب 1970 كانت خسائرنا على امتداد القناة قد بلغت 1366 إصابة منها 367 إصابة مميتة، وكان الحاخام الأكبر يزورنا باستمرار، ويصلي مع الجنود، ويقضي الليل معهم.
وعندما أطلق المصريون حربهم الإستنزافية كانوا يراهنون على الحساسية المفرطة عند الإسرائيليين لخسارة أرواح بشرية، وكنا على علم بما يراهنون عليه، ولذلك فعلنا المستحيل لنبرهن أن مصر هي أكثر عرضة للتجريح منا، وأن قصفهم المتواصل سيرتد عليهم.
ولكي نبين للعدو ما قد تكلفه حرب الاستنزاف هذه، هاجمت طائراتنا ابتداءً من عام 1970 أهدافاً عسكرية في العمق المصري، وسرعان ما ظهر للجميع أن مطارداتنا تستطيع دون أخطار كبيرة أن تخترق الدفاع الجوي المصري.
توجه عبد الناصر إلى حلفائه السوفيات متوسلاً إليهم أن يزودوه بالوسائل الكفيلة بمتابعة إهراق الدم في المعسكر الإسرائيلي، وسرعان ما أعطاه الروس الحل بإرسالهم إليه شحنات كثيفة من صوارخ سام 3 المضادة للطائرات، وقد أرفقت بفرق من الخبراء السوفيات لتشغيلها، وبدأ الدور الذي تلعبه موسكو في الصراع يثير القلق، وكان على إسرائيل أن تجابه عسكرياً لأول مرة في تاريخها إحدى القوتين العظيمتين.
كان الوضع بالغ الدقة والحساسية، من جهة لم نستطيع غض الطرف عن وضع تصير فيه الجبهة محمية بغطاء جوي سوفياتي يسمح للمصريين بمواصلة قصفهم المدفعي، والإعداد بهدوء لما يسميه الرئيس عبد الناصر بمرحلة التحرير.
في 7 آب 1970 لاح حل لهذه المعضلة عندما قبلت إسرائيل ومصر اقتراحاً أمريكياً بوقف المعارك، وأراح وقف النار الفريقين كليهما، فالإسرائيليون كانوا يتكبدون ضحايا يومية على خط بارليف، والقوات المصرية المعسكرة على امتداد القناة كانت أيضاً تتكبد خسائر فادحة.
ويكشف شارون سر موافقة عبد الناصر على وقف إطلاق النار الذي أدهش الجميع: ألا وهو نقل منصات صواريخ سام 3 وطواقمها إلى الشرق، دون أن تتعرض لهجوم الطيران الإسرائيلي، فيغدو المجال الجوي فوق القناة محظراً على طائراتنا.
كان الوقت يعمل ضدنا، فأسرعت قيادة الجنوب والأركان العامة إلى فتح باب النقاش حول الإجراءات الواجب اتخاذها، فأوصيت أن نجتاز القناة قرب القنطرة، وأن نهدم قواعد صواريخ سام في المنطقة ثم ننسحب، محتفظين برأس جسر صغير على الضفة الغربية، فقبلت الخطة، ووافقت عليها قيادة الأركان.
وباشرنا ببناء سلسلة من القلاع على طول التلال الممتدة شرق القناة، وأقمت مراكز قيادة ومراقبة، ومواقع إطلاق نار، وقواعد لوحدات احتياط متقدمة، وأوكار مدفعية، وأطلقت مشروعاً كبيراً لبناء طرقات رئيسية وفرعية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
البؤرة الثانية: الحدود الأردنية :
منذ إنشاء الدولة سال دم يهودي غزير على الطريق الرئيسية التي تخترق وادي عربة، فهي تقدم للإرهابيين الظروف المثلى لوضع ألغام ونصب كمائن، وغالباً ما كانت تهاجم العربات ويقتل ركابها، وكانت الكيبوتزات والقرى الزراعية وشركات البحر الميت، تشكل أهدافاً مفضلة للمتسللين، بالإضافة إلى تعرض خط أنابيب النفط الذي يصل إيلات بمدينة عسقلان على شاطئ البحر المتوسط.
وتكمن مشكلة حماية هذه المنطقة أنها تكون نوعاً من الأرض المحايدة، وبعض وحدات الجيش والشرطة الأردنية تقيم في الطرف الآخر من الحدود، لكنها في الواقع تتعاون مع الإرهابيين، مسدية إليهم دعماً نشيطاً، وكان لواء سعودي يحرس جبال البحر الميت المقفرة، فعند هبوط الظلام كان الإرهابيون يغادرون قواعدهم، وفي أثناء النهار يختبئون على مقربة من الحدود، وفي الليل يخرجون ويضعون الألغام، وينصبون الكمائن، ويقصفون بالهاون القرى والمؤسسات، ويبقى لهم الليل بطوله ليعودوا إلى قواعدهم في الجبال.
قادتني دراسة متعمقة لطرائق عمل الفدائيين إلى الاستنتاج بسرعة أن الدفاع الأكثر فاعلية ضد أعمالهم هو الهجوم، وأنه يجب الحيلولة بينهم وبين بلوغ الحدود، وإذا بلغوها يجب منعهم من العودة سالمين إلى جبالهم، ومن أجل ذلك أرسلت دوريات استكشاف لإقامة مراكز تنصت، ونصب كمائن للفدائيين، فسجلت هجومات الفلسطينيين تراجعاً مذهلاً.
ومن جهة أخرى كان وجود القوات السعودية المعسكرة مطمئناً لرجال منظمة التحرير الذين كانوا على قناعة بأننا لن نجسر على الرد تحاشياً للتورط مع القوات النظامية السعودية.
فاجأنا السعوديين والإرهابيين في ليل 20 آذار 1970 بقذائف المورتر، ثم هاجمناهم بقواتنا، وقمنا باحتلال قرية الصافي، وخلال ثلاثة أيام ربطنا الصافي بالمنطقة الصناعية في البحر الميت، فلم نعد نخشى عملاً أردنياً أو سعودياً ضد قواتنا الاستكشافية في الجبال، وغدت كمائننا أكثر عمقاً في الأراضي الأردنية، وبات على المتسللين أن ينطلقوا من أماكن أكثر بعداً من الحدود، ودعمت المنطقة الحاجزة على امتداد الحدود بحقول ألغام، وبشريط شائك، وبممر من الرمل الناعم بعرض عشرة أمتار كان يمشط كل يوم فتظهر فيه آثار أقدام كل من يحاول اجتياز الحدود، وكانت الحوامات تشارك في البحث عن المتسللين، وجمعت مئات المتطوعين من بدو النقب، الذين جذبتهم فكرة الخدمة كمتعقبين وكشافة في فرقة جمالين.
البؤرة الثالثة: قطاع غزة:
كانت بساتين الليمون في قطاع غزة تشكل مخابئ مثالية لخلايا الفدائيين بسبب النمو المفرط للأشجار، هذه الكثافة نجدها على الصعيد البشري في مخيمات اللاجئين، فوسط هذا الجمع الحاشد كان من الصعب جداً التمييز بين رجل ينتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية ومدني آخر، وكنا نعرف أن للمنظمة مقرات مخفية، وشبكة اتصال بين القيادة العليا خارج غزة وفروعها المحلية، وكذلك بين الفروع والخلايا، فبدأ مخبرونا السريون بالتعرف إلى بعض الإرهابيين، فأمرت بتتبعم لاكتشاف غرفهم المحصنة ومخابئهم.
جمعت عدداً محدوداً من وحدات المشاة، وبدأت أدرب رجالها على حرب عصابات مضادة للإرهاب، وقسمت قطاع غزة إلى مربعات مرقمة، ووضعت كل مربع تحت مسؤولية زمرة من الجنود، وبدأت أكتشف الغرف السرية، وأنشأت وحدات مختلطة يهود وعرب، واستخدمت كل الخدع الممكنة، وأطلقنا في الأسواق رجالاً من باعة الثمار، وفي مقاهي الرصيف رجالاً من شاربي القهوة التركية، وفي الشوارع رجالاً متنكرين بمكارين يقودون حماراً، وأحياناً كان إرهابيونا يلقون القبض على مشتبه به، فيسحبونه من بيته ويتهمونه بالتعاون مع اليهود، اقتلعت أسيجة الصبير للوصول إلى الملاجئ التحتأرضية وشاغليها، وعمدت إلى توسيع الشوارع تسهيلاً لعمل دورياتنا، واقترحت على لجنة وزارية إنشاء بعض القرى كنوع من العوائق اليهودية، على غرار مستوطنات اليهودية والسامرة، وشرحت لهم على الطبيعة أننا إذا أردنا السيطرة على هذه المنطقة كان علينا أن نؤمن منذ الآن وجوداً يهودياً، وأنه من الضروري إنشاء منطقة حاجزة بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، تقف سداً في وجه عصابات المتاجرة بالسلاح.
خطة شارون لحل مشكلة اللاجئين :
يقوم جوهر خطتي على التخلص من مخيمات اللاجئين مهما كانت، ويجب إسكان سبعين ألفاً في المدن التي سنبنيها في هذه المنطقة، ونسكن سبعين ألف لاجئ في مدن اليهودية والسامرة، وندمجهم بشكل متناغم في بيئتهم الجديدة.
ولنبرهن على حسن نيتنا وعن تعلقنا بالقيم الأدبية، أوصيت باختيار عشرين إلى ثلاثين ألف لاجئ من قطاع غزة ممن لم يكن لهم أي اتصال بمنظمة التحرير، بل ربما كانوا هم أنفسهم ضحايا الإرهاب، لإسكانهم داخل حدود إسرائيل قبل 1967.
ويردف شارون قائلاً: بالمناسبة لا أعتقد أن هؤلاء اللاجئين يستحقون أي حق بالعودة، فوضعهم نتيجة حرب هم أنفسهم شنوها، وقد ظلوا في المخيمات بسبب رفض البلدان العربية دمجهم في مجتمعاتهم، فيما كانت إسرائيل تستقبل في ذلك الوقت بذراعين مفتوحين قرابة مليون يهودي اضطروا إلى الهرب أو نفوا من مواطنهم في الدول العربية.
ويقدر شارون مشروع تصفية مخيمات اللاجئين بعشر سنوات، ويقترح إجراء تسوية بين أملاك اللاجئين الفلسطينيين، وأملاك اليهود القادمين من الدول العربية، وفق مبدأ المعاملة بالمثل، وإيجاد صندوق لدعم استقرار اللاجئين في دول أخرى.
شارون في غزة :
خلال سبعة أشهر (تموز1971 ـ شباط 1972) قتلنا 104 إرهابيين، وأوقفنا سبعمائة واثنين غيرهم، عاد سكان هذه المنطقة إلى الحياة السوية، ونجحنا في تثبيت الهدوء، وقطعت القرى اليهودية الطريق على تهريب السلاح، ونجحنا في قطع دابر التسللات عن طريق البحر، وهددت الآباء الذي يرشق أبناؤهم رجالنا بالحجارة بالترحيل إلى الأردن، وطردت ثلاثين رجلاً في مناسبتين فقط.
العودة إلى المزرعة :
في أحد أيام صيف عام 1972 أعلمني رئيس الأركان (دافيد أليعازر) أنه ينتظر استقالتي، كنت في الخامسة والأربعين من عمري، وهو سن التقاعد في الجيش كما حدده (موشي دايان)، كان عالم السياسة يثير فضولي، لكن مشروع العودة إلى الأرض، والحياة في وسط ريفي كانت تلائمني أكثر.
وجدت مزرعة معروضة للبيع في شمال النقب؛ استمالني المكان بجماله الوحشي، وتبايناته العنيفة، وطقسه المتطرف، وكان أحد صهيوني أستراليا قد ابتاع هذه الأرض، ليحقق حلمه في أن يرى ابنه راعياً في إسرائيل، ولكن من أين أحصل على المال لشراء المزرعة ؟
قضيت عمري كله في خدمة العلم، وعشت بالطبع من المرتب المتواضع للضابط المحترف، ويتعذر على شخص مثلي الحصول على قرض شخصي من المصارف لشراء مزرعة، وأخيراً انبرى لمساعدتي يهودي أمريكي اسمه (ميشولام)، تعرفت إليه قبل عدة سنوات في (رامات غان)، وعندما أخبرته بأني سأترك الجيش لأكرس نفسي للزراعة قال لي: لا أعتقد أن في وسع إسرائيل أن تسمح لنفسها بالتخلي عن خدمات رجال مثلك ومثل (عازار وايزمن)، وتابع يقول: لا أظن أن رجالاً مثلكما يجب أن يهتموا بأشغال خاصة، ويتخبطوا بمسائل مالية.
هذا الانتقال اللطيف من حياة الجندية إلى حياة الزراعة كما كنت أخطط له انقلب رأساً على عقب في أيار 1972 عندما وردتنا معلومات من أجهزتنا السرية تقول إن مصر تستعد لهجوم واسع النطاق.
قررت أن أرسم قبل رحيلي عن الجيش خطة مفصلة لعبور ثالث محتمل شمال البحيرة المرة الكبرى في قطاع (الدفرسوار)، وقلت بوجوب إخلاء التحصينات في حال وقوع هجوم مصري شامل، خشية تبديد قواتنا في محاولتنا الدفاع عنها.
وكلما كانت تنخفض حدة التوتر كان موعد تركي الجيش يقترب، وعندما طلبت من رئيس الأركان أن يرجئ رحيلي سنة رفض هو ودايان و(غولدا مائير).
ولما طلب منه أن يحدد موعد عشاء الوداع، أجاب بأنه يفضل عدم إجرائه، ذلك لأنه يعتبر منصة التكريم بمثابة منصة الإعدام.
تحدي حزب العمل :
مشكلة إسرائيل في نظري هي سيطرة حزب العمل خمساً وأربعين سنة على الوكالة اليهودية ثم على الدولة، وتفرده بتنظيم البلاد وفق نظرة إشتراكية محدودة، وكانت كل محاولة لإزاحته عن السلطة محكوم عليها بالإخفاق سلفاً، وباتت شؤون الفساد السياسي أكثر تواتراً وتفاقماً، ولم تقدم الأحزاب الصغيرة الإثني عشر حلاً سياسياً بديلاً ، فقادتني تأملاتي إلى جمع كل هذه الأحزاب الصغيرة في جبهة متراصة، لتحدي حزب العمل والأحزاب الدائرة في فلكه.
أطلقنا أنا وبيغن اسم الليكود (الاتحاد) على تحالف أحزاب المعارضة، وكرست شهر آب للتفاوض مع مندوبي الأحزاب الأخرى المعنية، وكانت الاستراتيجية الأساسية للمشروع توحيد كل التشكيلات التي تؤلف الليكود، وتجزئة حزب العمل.
عرض علي زعماء كثيرون الانضمام إلى حزبهم وطرحت المسألة عدة مرات خلال المناقشات، لكنني كنت مصراً على البقاء فوق الخلافات، وانتهى بي الأمر إلى الانضمام إلى حزب الأحرار، وعينت رسمياً على رأس القيادة العامة لحملة الليكود الانتخابية.
التحقت بفرقتي، وكأنني عائد إلى بيتي:
عشية عيد الغفران اتصلت بي القيادة العامة لمنطقة الجنوب العسكرية، وطلبت مني وقف كل نشاط انتخابي، والحضور إلى مكتب فرقتي الاحتياطية.
تبينت بعد اطلاعي على صور جوية ووثائق إستخبارية أن المصريين حشدوا قرب الضفة تجهيزاتهم لعبور القناة، واقتنعت بأن معلومات أجهزتنا السرية دامغة ونهائية، فأعلنت جاهزيتي، وفي صبيحة يوم الغفران (يوم كيبور) التحقت بالقيادة العامة لفرقتي، وكأنني عائد إلى بيتي.
انفجرت الحرب على جبهتين، وللمرة الأولى منذ عام 1948 ، فقد قام المصريون بهجوم واسع النطاق على طول القناة، وبدأ السوريون يهاجمون بعنف وينقضون بدباباتهم على هضبة الجولان.
جمعت قادة الألوية وضباط القيادة العامة لأطلعهم على الوضع، وتابعت حشد الرجال، وقررت أن ألعب ورقة الوقت والسيطرة على آلياتي بإرسالها على جنازيرها، وأصدرت أمراً لكل سرية أن تتجه من المعسكر إلى القناة (على بعد 250 كيلو متراً) حالما تكمل استعداداتها، بعد أن حددت لهم خطوط السير ونقاط التجمع.
أخطاء تكتيكية فادحة :
دفعنا ثمن غلطنا عندما تركنا المصريين ينقلون صواريخهم (أرض جو) إلى القناة، ولم تنشر وحدات الدبابات على طول القناة، ولم يصدر أمر بإخلاء (تحصينات بارليف) فكان الناجون من الحامية يطلقون استغاثات يائسة، ولم تكن جهود الطواقم مجدية إذ قتلوا جميعاً تقريباً، وخسرنا في اليوم الأول ثلثي الثلاثمائة دبابة المتوفرة في الخطوط الأولى.
لم نحصد في اليومين الأوليين من الحرب سوى هزائم، لا نزال خلالهما أن نتذرع بأسباب مخففة: معلومات استخبارية غير كافية وغير دقيقة، تقديرات مغلوطة من وزير الدفاع موشيه دايان، أخطاء مجلس الوزراء، ثم يقول: انقلب ظهر المجن للجيش الإسرائيلي نتيجة أخطاء تكتيكية فادحة، فقد أصيب الجيش الإسرائيلي بعد 1967 بما يشبه هوس الدبابات، المرضي، فأهملت أجزاء الجيش الأخرى، وكانت الصدمة عميقة عندما لم تنهزم القوات المصرية أما الدبابات الإسرائيلية، وكانت النتيجة تلك الهزيمة الساحقة التي أطالت الحرب قرابة أسبوعين، وسببت لنا خسائر ضخمة كنا نستطيع تفاديها، ولست أبالغ قطعاً إذا أكدت أن ثقتي بقيادة الجنوب العامة أو بالأركان كانت شبه معدومة في تلك المرحلة.
معركة عبور القناة :
تأكدت من وجود ثغرة مفتوحة بين الجيش المصري الثاني في الشمال، والجيش الثالث في الجنوب، وكانت هذه الثغرة فرصة مثالية يجب عدم تفويتها، وكانت الطريق المؤدية إلى القناة مفتوحة على مصراعيها، وكنا في هذه المرحلة قادرين على تنظيم صفوفنا لعبور القناة، وبلوغ الضفة الأخرى، إلا أنهم طلبوا منا التراجع، فامتثلت للتعليمات، واعتمدت تكتيكاً دفاعياً محضاً، ولم أكن مقتنعاً بصوابية هذا التكتيك الدفاعي.
وبعد تحطم الدبابات المصرية يوم 14 تشرين أول، قررت هيئة الأركان أنه آن الأوان للتقدم، وسمحوا لنا في الليلة نفسها أن نعبر بفرقتنا من المكان الذي دخلته فرقة الاستكشاف، وكان على المظليين أن يرسوا على الضفة الغربية بقواربهم المطاطية، ويحتلوا القطاع، لإنشاء جسر بين الضفتين، حيث تعبر فرقة عسكرية القناة إلى الأرض المصرية، وتتقدم جنوباً على طول الضفة الغربية للبحيرة المرة حتى قناة السويس.
كنت في وسط الميدان، وما شعرت قط بأني معزول، وقد أرسلت المعدات والتجهيزات والوقود والدبابات إلى وجهتها، ولم أعر النداءات المسعورة التي كانت تطلقها القيادة العامة للجبهة: أنتم معزولون ! أنتم مطوقون ! وكان المصريون بحالة صدمة، وكان عليهم أن يفهموا أنهم وقعوا في الفخ.
كدت أصفع بارليف على وجهه:
وفي مركز التنسيق بين كثبان الرمل على بعد بضعة كيلو مترات من القناة، كان بانتظاري موشيه دايان، وحاييم بارليف، ودافيد أليعازر، وأبراهام أدان، استقبلت بصمت مطلق، وبدون يد ممدودة، وأخيراً فتح بارليف فمه ليقول: الهامش كبير جداً بين ما وعدت به من فعل وما فعلته.
وعندما سمعت هذه الجملة، قلت في نفسي: إن الجواب الوحيد على ذلك هو صفع بارليف على وجهه، لقد شعرت بحاجة لا تقاوم إلى توجيه صفعة إليه، ولا أزال حتى اليوم أجهل كيف استطعت السيطرة على أعصابي.
عملية تلفزيونية:
وعندما وصف الرئيس السادات عملية العبور بأنها عملية تلفزيونية، وإخراج تم لإحداث نتيجة دراماتيكية عابرة، كان الجيش الثالث شبه مطوق، وكانت قواتي على بعد مئة كيلو متر من القاهرة، وقد بلغت أبواب الإسماعيلية.
ودخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ مساء 22 تشرين الأول، وحل الصمت بعد ستة عشر يوماُ من الجحيم.
لم تتركني السياسة وشأني :
تركت كل الاهتمامات غير العسكرية عندما أعلنت التعبئة العامة، غير أن السياسة لم تتركني وشأني، وفي أثناء الحرب لمس الجميع بعدها السياسي، حتى في الأيام التي كانت فيها أرواحنا رهن نهايتها، ولم آت بجديد ولا بمستهجن في جمعي السياسة إلى القيادة العسكرية، فقد ارتقى القادة العسكريون في إسرائيل درجات السياسة كلها، لأن النظام سعى في استمرار إلى وضع ضباط ينتمون إلى حزب العمل في مناصب الجيش المرموقة، فإذا بي أقلب المعهود رأساً على عقب بصفتي رئيساً عسكرياً ورجل سياسة جاء من بين صفوف المعارضة، وسرعان ما أبدى حيالي زملائي العسكريون، وجميعهم تقريباً أعضاء فاعلون في حزب العمل، أو مشمولون برعايته تعارضاً عميقاً.
اشتدت معارضتي لحزب العمل :
اشتدت معارضتي لحزب العمل بعد حرب أكتوبر لأن قادة الجيش أدخلوا الاعتبارات السياسية في القرارات العسكرية، فأبان الحرب كنت أعتبر سحق المصريين والسوريين أكثر الأمور إلحاحاً، باعتبار أننا سنحظى فيما بعد بمتسع من الوقت لنتجابه في الحلبة السياسية، وكنت أهاجم من كان يسعى للتقليل من أعمال فرقتي، ولم أوافق في مفاوضات جنيف حين عرض حزب العمل موقفه على أنه الحل الوحيد الممكن، ورفضت الشعار الذي طرحه في الانتخابات: من يصوت لحزب العمل يصوت للسلام.
انتخبت نائباً في قائمة الليكود:
أرجئت الانتخابات إلى 31 كانون الأول فطلب مني قادة (الليكود) أن أستعيد مكاني على رأس حملة الحزب الانتخابية، ولم أكن متشوقاً إلى مغادرة الجبهة، وكنت أفضل البقاء على رأس فرقتي، ومع أنني كنت غائباً فقد حقق (الليكود) 39 مقعداً، وكان أحد المقاعد من نصيبي، وفي نهاية كانون ثاني تركت الجيش لأقسم اليمين في البرلمان، إلا أنني قدمت استقالتي بعد أن أصدر مجلس الوزراء مرسوماً يمنع النائب من أداء مهام ضابط أعلى إحتياطي ميداني، واعتبرت هذا القرار تصفية حسب ضد شارون، ورجعت إلى المزرعة.
استولى علي شيطان السياسة:
مع اقتراب انتخابات 1977 استولى علي من جديد شيطان السياسة، فقد تصدرت عشية الانتخابات قضايا الفساد، ومخلفات حرب الغفران، وأجمع الرأي أن حزب العمل لم يعد على المستوى الذي يخوله إنجاز مثل هذه المهمة الوطنية، ولم تكن علاقاتي مع ساسة الأحزاب دافئة، وفشلت في توحيد (الليكود) ولم يكن أمامي سوى إنشاء حزبي الخاص، ودعوت الناخبين إلى الانتساب إلى حركة أطلقت عليها: (شلومتسيون) أي سلام صهيون.
فشلت في الاتفاق مع (شامير) في ضم حزب (شلومتسيون) إلى (الليكود) ومع ذلك وجه بيكن رسالة إلى الناخبين: إذا أردتم أرييل صوتوا لليكود.
وكانت النتيجة انتصار الليكود، وهزيمة حزب العمل، بعد تسعة وعشرين عاماً من السلطة، أما (شلوموتسيون) فقد أحرز مقعدين، وأصبحت إسرائيل أخيراً ثنائية الحزب.
وانصهر (شلومتسيون) في حزب (حيروت) وتسلمت حقيبة وزارة الزراعة، وإدارة شؤون الاستيطان.
سياسة الاستيطان والاعمار:
كانت أولى المشكلات الموضوعة أمامي هي مشكلة المستوطنات، فقد كنت ـ قبل أن أصبح وزيراً ـ أجوب المناطق، وأضع الخطوط العريضة لمشروع يستهدف استثمار الأراضي في اليهودية والسامرة، ولم يخطر على بالي التنازل عنها لصالح الأردن، لأنهما لم تكونا يوماً أرضاً أردنية، فحكاية الاحتلال الأردني هذا كتبها دم اليهود.
وخلال اجتماع اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، وبعد بسط خريطة كبيرة لهذه الأراضي، دعوتهم لمواجهة ثلاث مشاكل، الأولى: تتمثل في أمن الساحل الإسرائيلي الضيق الذي بات من الصعب الدفاع عنه وفقاً لحدود 1967 ، وما تشكله جبال اليهودية والسامرة التي تشرف على السهل الساحلي من خطر، وأنه لا بد من تشييد وحدات سكنية مدنية ومجموعات صناعية، على المرتفعات المشرفة على السهل الساحلي.
أما المشكلة الثانية فهي: في الحدود نفسها، فمشاكل الدفاع شرقاً تبلغ من الفداحة ما لا تبلغه في أي مكان آخر، وهذا يستلزم بناء خط من المستعمرات على طول طريق وادي الأردن، وسهل بيت شان على البحر الميت، وتشييد قرى أخرى على الروابي، وشق الطرق الشرقية الغربية، على طول المحاور الاستراتيجية.
وتتمثل المشكلة الثالثة في القدس، والسؤال المطروح: كيف نحافظ على القدس كعاصمة للشعب اليهودي الأبدية ؟ وكيف نحافظ على أمنها، ونوفر غالبية يهودية فيها ؟
واقترح على اللجنة تشييد سلسلة من المساكن المدنية التي تحيط بالضواحي والأحياء العربية على شكل حدوة حصان.
ووافق الوزراء على مشروع الاستيطان الأساسي، وبدأت الجرافات تشق الطرقات، وتعد أماكن القرى، وتلقيت الضوء الأخضر لبناء ثلاث مستوطنات كل شهر، ونزل شبان (غوش ايمونيم) أو كتلة الإيمان معترك العمل.
لقد كانت سياسة الاستيطان والاعمار التي اقترحتها وأنا أشغل منصب وزارة الزراعة مستوحاة من مبدأين: الدفاع عن تجمعات البلاد السكنية، وضمان حق اليهود في العيش داخل حدود إسرائيل التاريخية.
ضرب المفاعل النووي العراقي :
كم رغبنا أنا وزوجتي (ليلي) في تمديد إقامتنا في وادي الملوك الزاخر بآثار فنية تركها الفراعنة، بعد مشاهدة معبد الكرنك بأعمدته المذهلة وكتاباته التي تروي قصة الحملة التي شنها الفرعون لمعاقبة مملكتي إسرائيل ويهوذا في عهد (رحبعهام بن سليمان)، فالكتابات الهيروغليفية تحكي القصة نفسها كما ترويها التوراة، وتذكر أسماء المدن الإسرائيلية التي استولى عليها المصريون، ولكن لا مناص من العودة.
فالحكومة الإسرائيلية قررت شن غارة نهار الأحد على المفاعل النووي (أوزيراك) الذي كان لا يزال في طور الإنشاء في محيط بغداد، فعبرت النفق الجديد الذي بناه المصريون حديثاً شمال مدينة السويس، هذا الإنجاز التقني الذي بعث الفخر في نفس السادات الذي أصر على أن أراه بنفسي.
وكان الوقت يمر بسرعة قبل شن الهجوم على المفاعل العراقي، بينما كانت الاستعدادات للقاء القمة بين بيغن والسادات في العريش تجري ببطء، أي قبل ثلاثة أيام فقط من التاريخ المحدد للعملية.
فقد قررت الحكومة بعد مناقشات مطولة تدمير المفاعل قبل احتدام نشاطه، وكنت أعتبر بعض أعمال جيراننا غير المقبولة لدى إسرائيل خطوطاً حمراء، وحيازة الدول العربية للأسلحة النووية خط من هذه الخطوط، وكنت أرفض منطق توازن الرعب النووي.
وفي قاعة مجلس الوزراء بمبنى الكنيست قلت لهم: علينا تدمير المفاعل النووي بكل ما أوتينا من قوة نار، إنها مسألة حيوية بالنسبة إلى إسرائيل.
وبعد ظهر الأحد 7حزيران 1980 أقلعت طائرة إف 15 وإف 16 من قواعدها في (أتسيون)، وبعد مضي قرابة نصف ساعة وفيما أصبحت الحدود العراقية على مرأى منها، عقدت الحكومة اجتماعاً في مسكن بيغن، وبينما كانت إمارات التوتر ترتسم على الوجوه، ولا سيما وجه بيغن، زف إلينا بالهاتف (رفول إيتن) نبأ النجاح الباهر الذي أحرزته العملية.
ثورة السفرديم :
خرج الليكود في انتخابات 1981 منتصراً على حزب العمل بفارق طفيف، ويتمثل العامل الأهم وراء هذا الفوز في نظر شارون بالثورة الثانية التي شهدها المجتمع الإسرائيلي خلال سنوات حكم بيغن الأربع، ألا وهي (ثورة السفرديم) فقد أحس شعب السفرديم الشرقيين أنه أوشك على تحقيق المساواة مع مجتمع (الأشكيناز)، ووجدوا أنفسهم يستفيدون من منافع ويتمتعون بفرص لم يعهدوها من قبل، وفيما راح حزب العمل يتقدم في السن ظهر قادة شبان في صفوف الليكود، تحدروا عموماً من السفرديم.
محوت مدينة ياميت :
في إطار جلائنا عن سيناء بعد (اتفاقية كامب ديفد)، قبلنا إعادة تجمعاتنا السكنية فيها إلى المصريين، إضافة إلى مدينتي (أوفيرا) و(ياميت)، وكنت أدرك مدى التضحيات التي قدمتها العائلات عندما وافقت على السكن في هذه الأماكن المقفرة، ومدى الاضطراب النفسي الذي سيصيبها بعد قرار نقل سكانها، وعندما أنيط بي تنفيذ القرار تجرعت الكأس المرة.
وعرف سكان ياميت الحدودية أسوأ أيامهم، وكان يبلغ عددهم بضعة آلاف، وكانت البنى التحتية التي أنشأناها تلبي حاجات سكان يبلغ عددهم مئة ألف شخص، وكان يطالعك هناك كل ما هو ضروري لجعل الصحراء قابلة للسكن.
ولم تكن مصر أو إسرائيل ترغب في وقوع احتكاكات أو نزاعات حدودية بعد عقد اتفاقية السلام، فاقترحت في مجلس الوزراء تدمير مدينة (ياميت) بكل ما فيها من تجمعات تجارية أو صناعية، بدلاً من التخلي عنها للمصريين، وعندما لم أتلق معارضة باشرت التنفيذ فوراً، بعد إخلاء سكانها، ومحوتها حتى أصبحت رمالاً.
عارضت مشروع الحكم الذاتي:
عندما عرض (بيغن) على مجلس الوزراء مشروع الحكم الذاتي أشرت إلى الأخطار التي يتضمنها هذا المشروع، فهو قد يصبح في نظر الفلسطينيين وعد بلفور، وقد يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية ثانية (إضافة إلى الأردن).
تدابير احترازية:
علمتنا خبرتنا التاريخية أن التأصل في الأرض وحده قادر على تأمين حقوقنا، ففي اليهودية والسامرة لا تعني المستعمرات مشاريع زراعية، فالأرض الجبلية والصخرية في هذه المناطق لا تلائم مثل هذه المشاريع، علينا إذن بناء مجمعات سكنية مدنية ومناطق صناعية، ولا بد من العيش في هذه المرتفعات كأول تدبير احترازي.
أما التدبير الثاني فيتناول مسؤولية إسرائيل الحصرية في ضمان الأمن الداخلي وذلك بضمان حرية التنقل المطلقة للقبض على الإرهابيين، وضمان الأمن الخارجي لهذه الأراضي بأن تشغل القوات الإسرائيلية خط القمم المطلة على المنطقة ابتداءً من الضفة الغربية لنهر الأردن، وحظر دخول الشرطة أو رجال الحكومة الأردنيين أو المصريين.
تفسير مشروع الحكم الذاتي:
فسر مشروع الحكم الذاتي تفسيرين مختلفين: فالعرب رأوا في الحكم الذاتي مرحلة ستؤدي لا محالة إلى إقامة دولة فلسطينية ثانية، أما تفسير اليهود فكان ممنوحاً وبصراحة وبوجه خاص إلى سكان اليهودية والسامرة وغزة، فنحن لم نقبل قط بمنح الأراضي سيادتها، وفي حين يعتبر العرب أن الأردن وفلسطينيي الضفة الغربية وغزة يجسدون السلطة القانونية التابعة للحكومة المحلية، كنا نعتبر أن الإدارة المدنية الإسرائيلية وحدها تمثل قوة القانون، حتى وإن سحبت قواتها من هذه الأراضي.
أنا والنميري والفلاشا :
التقيت النميري لأول مرة في أيلول 1981 بعد اغتيال السادات على يد مجموعة من المسلمين المتزمتين، فجاء القادة والرؤساء العرب إلى القاهرة ليشيعوا هذا السياسي العظيم، وكان يمثل إسرائيل وفد ضخم تألف من رئيس الوزراء (مناحيم بيغن) ووزراء الحكومة المصغرة، وما لبثت الوفود أن اختلطت وفق الميول والمصالح، من جهتي وجدتني بالقرب من النميري ذلك السوداني ذي السيماء المتجهمة.
وبعد زيارتي لكينيا، كانت السودان محطتي التالية، وخلال حديث لي مع الرئيس السوداني شارك فيه يعقوب نمرودي، وعدنان قاشقجي، وجدت النميري طيب المعشر شديد التهذيب، وفي ذلك اليوم دارت مناقشاتنا حول موضوع آخر كان يتعلق بوجه خاص بالسودان وإسرائيل، وهو في نظري أهم الموضوعات المعالجة، ألا وهو نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، وتساءلت هل هو مستعد ليسمح لهم بالرحيل جواً من الخرطوم ؟
كنت أعرف أننا لن نتمكن من إخراج 28 ألف فلاشا، ولكن قد نتمكن من إخراج عدة آلاف، المهم أننا في غضون سبع سنين (1978 ـ 1884) نقلنا إلى إسرائيل ثمانية آلاف يهودي أثيوبي، فيما بعد قامت عملية أخرى ساهمت فيها الولايات المتحدة، فجاء على إثرها ثمانية آلاف يهودي إلى إسرائيل، وعلى رغم الشكوك والمخاوف التي انتابتنا، اندمج الفلاشا في المجتمع الإسرائيلي ليشكلوا عنصراً منتجاً وإيجابياً.
خطة أورانيم أو سلام الجليل:
راجعت الخطط العسكرية التي وضعت بعد عملية الليطاني، وعلى غرار كل خطه عسكرية هدفت خطة أورانيم إلى أقصى الطموحات، فتمثل هدفها النهائي بإبادة المراكز العملياتية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهدم بنيتها التحتية على امتداد لبنان، بما في ذلك بيروت، لكن خطة أورانيم حددت سلسلة أهداف وسيطة، وبعد تنقيح الخطة في تشرين الثاني 1981 أصبحت تشمل الأهداف التالية: إزالة خطر الإرهابيين كلياً، وتحييد السوريين، ووضع التجمعات السكنية في شمال إسرائيل خارج مرمى المدفعية، وعدم التعرض للشيعة والدروز والمسيحيين، والانسحاب بعد تحقيق الأهداف، ولا يتمثل هدف العملية بضمان سيادة الحكومة اللبنانية على كامل أراضيها، وتشكل العلاقة مع المنطقة المسيحية في الشمال الشرقي شرطاً ضرورياً لبلوغ الأهداف المذكورة أعلاه.
لقائي ببشير الجميل :
تلقيت من بشير الجميل دعوة شخصية للمجيء إلى لبنان، وحدد موعد الزيارة في مطلع كانون الثاني 1982 ، وقمنا بتنظيم جدول الرحلة بأدق التفاصيل، وكانت الطائرة المروحية التي أقلعت بنا من تل أبيب تحت جنح الظلام الوسيلة الفضلى للوصول إلى جونية،
وبعد عشاء فاخر في أحد منازل جونية، قمنا بجولة سريعة في بيروت، وقمت في اليوم التالي بزيارة مركز قيادة القوات المسيحية اللبنانية في القطاع الشمالي من مرفأ بيروت، وبلغنا قمم الجبال في (بيت مري) وصنين وتوقفنا في بكفيا، ثم عدنا إلى مسكن بشير بحي الأشرفية ببيروت، حيث كان باستقبالنا زوجة بشير، ووالده بيار، وكميل شمعون، رئيس الجمهورية السابق، وكان أحد أفراد الموساد المرافقين يترجم الحديث من الفرنسية إلى العبرية.
بعد عودتي قدمت لبيغن وللحكومة المصغرة تقريراً عن زيارتي، واصفاً المواضيع المعالجة بأدق تفاصيلها، وعارضاً انطباعاتي حول مواطن القوة ومواطن الضعف الكامنة عند المسيحيين.
عملية سلام الجليل:
اعتمد مجلس الوزراء الإسرائيلي في جلسته خطة أورانيم كما قدمت، وصدر الأمر رقم واحد عن هيئة الأركان والمتعلق بهذه العملية: على الجيش الاستعداد لتنفيذ كافة مراحل أورانيم.
وارتكزت استراتيجيتنا على إرسال سلسلة من الرسائل الواضحة جداً إلى السوريين، شارحين فيها نيتنا في عدم التعرض لهم، ومحددين الهدف الذي نطمح إليه، ألا وهو إقصاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية المختبئة في قطاعهم حتى مسافة أربعين كيلو متراً من مواقعها الحالية.
نهار 6 حزيران تقدمنا باتجاه الأراضي اللبنانية على ثلاثة محاور.
المحور الغربي: زحفت دباباتنا على طول الساحل نحو صور.
المحور الأوسط: توجهت قواتنا من المطلة إلى النبطية وقلعة شقيف.
المحور الشرقي: تقدم جيش الدفاع الإسرائيلي نحو حاصبيا.
وفي اليوم التالي وصل (فيليب حبيب) مبعوث الرئيس (ريغن) إلى القدس، فكلفته حكومة (بيغن) السعي لدى الرئيس السوري ليفرض وقف القصف المدفعي الذي تمارسه المناطق الواقعة تحت سيطرة السوريين، والمطالبة بانسحاب فوري إلى ما وراء مرمى مدفعية منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي 8 حزيران تقدمت قواتنا على طول الساحل مخلفة وراءها (الدامور)، ثم أخذت الشمال الشرقي في اتجاه (عاليه)، في مسعى لقطع طريق بيروت ـ دمشق في وجه السوريين، أما القطاع الأوسط فقد شهد معركة بين قواتنا والقوات السورية الفلسطينية المتحالفة التي أخذت تدافع عن (جزين)، ووافقت الحكومة على فتح محور ثالث في اتجاه الشمال للهجوم على السوريين من الخلف، وإجبارهم على إخلاء (البقاع)، وفي المساء أدخل السوريون ست منصات إطلاق صواريخ سام 6 ووضعوا الفرقة الثالثة في حالة استعداد.
بقيت رسائلنا من دون إجابة، وحينئذ أصدرت إلى رئيس الأركان ظهر يوم 9 حزيران أمراً يقضي بتدمير الصواريخ السورية، وفي اليوم التالي اقتحمت القوات الإسرائيلية الخطوط السورية في البقاع.
وفي نهاية اجتماع 11 حزيران وافقت الحكومة على قرار وقف إطلاق النار، وورد في نص القرار: حقق الجيش الإسرائيلي المهمة التي كلف القيام بها، وبدءاً من هذه الساعة ستوقف القوات الإسرائيلية إطلاق النار على كافة الجبهات، إلا إذا تعرضت لنيران تلك الجبهات.
وعرفت مواقع منظمة التحرير جنوب بيروت وغربها هدنة قصيرة سرعان ما تبعتها رشقات كثيفة وطلقات صاروخية، وبعد الظهر أصدر (رفول إيتان) أمراً بشن هجوم مكثف على مواقع منظمة التحرير، واستأنفت وحدات القطاع الغربي تقدمها.
وفي صباح اليوم التالي اتجه أحد الطوابير شمالاً شرقاً إلى (عاليه)، في حين احتل طابور آخر (خلدة)، وأعلمت منظمة التحرير رئيس الوزراء اللبناني بأنها ستقبل وقف إطلاق النار، وشهدت (بعبدا) أول اتصال بين وحداتنا والقوات المسيحية، وبفضل هذا الالتحام أصبحت بيروت محاصرة، وبدأ (فيليب حبيب) الضغط لفك اشتباك القوات.
وأصدرت أمراً إلى الجيش لتحسين مواقعه، واحترام وقف إطلاق النار، والتقدم فقط في اتجاه الأماكن الحيوية التي يمكننا الاستيلاء عليها من دون خرق الاتفاق.
وفي 24 حزيران وافق مجلس الوزراء على اقتراحي المتضمن شن هجوم يرسخ وجودنا على طريق بيروت ـ دمشق، فقمت بتنفيذ الهجوم في اليوم نفسه، وتمركزت قواتنا في وسط البلاد الاستراتيجي.
رحيل عرفات ورجاله عن بيروت:
رفضت اقتراح (فيليب حبيب) الداعي إلى نزع سلاح رجال منظمة التحرير، وجعلها منظمة سياسية، قائلا: عليهم أن يرحلوا وإلا سيصار إلى تصفيتهم، فنحن لم يعد في استطاعتنا تقبل عدم رحيلهم، وفي وسعنا تصفيتهم من دون الدخول إلى بيروت.
وما دامت المفاوضات التي يديرها الأمريكيون تراوح مكانها، فلم يبق أمامنا سوى خيار دخول بيروت وتصفية الإرهابيين، أو إخضاع الضاحية الجنوبية التي احتلتها منظمة التحرير، أو سيطرة الجيش الإسرائيلي على الأراضي المكشوفة المحيطة بالضاحيتين.
واقترحت في مجلس الوزراء عملية تعزل أولاً أحياء صبرا وشاتيلا والفاكهاني، عن سائر المدينة، وعندما يتحقق هذا الفصل ستتمكن قواتنا من احتلال ميدان الخيل، ومنطقة حرج بيروت، فقررت الحكومة اعتماد الخطة المقترحة.
واتفق مجلس الوزراء على الآتي: في حال خرق الإرهابيون وقف إطلاق النار سيرد جيش الدفاع الإسرائيلي براً وبحراً وجواً.
ولم يمض وقت طويل على هذا التصريح حتى خرقت منظمة التحرير وقف إطلاق النار، فجاء الرد الإسرائيلي قاسياً، واحتلت قواتنا المطار وتقدمت شمالاً، وقام الجيش الإسرائيلي بشن هجوم واسع النطاق، أثار عاصفة داخل الحكومة، وانتقاداً قاسياً من الرئيس الأمريكي (ريغن)
ويتابع شارون تطور الأحداث فيقول: وفي ليلة 25 حزيران استخدم (فيليب حبيب) السوط الذي كان بين يديه منذ بضعة أسابيع: وجه إنذاراً إلى منظمة التحرير الفلسطينية قائلاً: على منظمة الرحيل قبول الرحيل عن الأماكن الآن، من دون إقامة منطقة عازلة، ومن دون حماية القوة المتعددة الجنسيات.
وأدرك عرفات أنها كانت النهاية، عندما وجد نفسه أمام احتمال بدا وكأنه تصفية وشيكة الحصول، انهار وقرر في الليلة عينها الرحيل مع كافة أتباعه.
مقتل الجميل قبل محادثات السلام:
وفي 23 آب انتخب مجلس النواب اللبناني بشير الجميل رئيساً للجمهورية، وهو حدث كنا نرجوه من دون أن نكون متأكدين منه، وقمت في شهر أيلول برحلات كثيرة إلى لبنان، ولقيت فيه ترحيباً حاراً، وخلال محادثاتنا مع الرئيس بشير تطرقنا إلى العلاقات المقبلة بين لبنان وإسرائيل، وتلاقت وجهات نظرنا حول هذا الموضوع، وتم الاتفاق على البدء بمفاوضات مباشرة في أسرع وقت ممكن، وشرعنا في درس طبيعة اتفاقية السلام التي نصبو إليها، إلا أن اللقاء المقرر انعقاده لم يتم بسبب الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس بشير الجميل في 14 أيلول.
مجزرة صبرا وشاتيلا :
كان حل مشكلة بيروت الغربية مهمة صعبة بعد موت الرئيس بشير، فقد أفلح عرفات في نقض بنود الاتفاق عندما بقيت أعداد من رجال المنظمة في بيروت، ولم يسلم أعضاء المنظمة المغادرين ما بحوزتهم إلى الجيش اللبناني، وأعطوا جزءاً من أسلحتهم الثقيلة إلى حلفائهم، في حين خبأوا الجزء الآخر في المستودعات.
وبعد أن اطلعنا على التقارير الواردة من بيروت اعتمدنا قراراً يقضي بأن تسيطر القوات الإسرائيلية على بيروت الغربية، وترابط في النقاط الرئيسية، وفي الضواحي، لكنها لن تدخل الضواحي، وطلبت من المسيحيين أن يلعبوا دوراً رئيسياً في حال اندلعت المعارك في بيروت، فنحن لا نريد أن تتكبد قواتنا خسائر في حرب الشوارع، أما البحث عن الإرهابيين فسيكون أكثر فاعلية إذا قام به لبنانيون يتكلمون اللغة العربية، لذا كانت القوات اللبنانية مدعوة إلى دخول بيروت الغربية إلى جانب جيش الدفاع الإسرائيلي.
وفي 15 أيلول طرت إلى بيروت، حيث لقيت (رفول إيتان) الذي قال لي أنه تحدث مع قادة القوات اللبنانية، ونسق معهم مشاركتهم في الدخول إلى ضواحي صبرا وشاتيلا، فقد تلقوا أمراً بإعداد تفاصيل عملياتهم مع الجنرال (أميردروري) قائد الجبهة الشمالية.
وفي مساء اليوم التالي دخل الكتائبيون إلى صبرا وشاتيلا، لكنني لم أفاجأ لدى سماعي خبر سقوط قتلى، لكن (إيتان) قال: لقد ذهبوا بعيداً.
ونقلت الصحافة عن شهود عيان صور المجزرة التي شاهدوها، وكنت أعرف الذين تورطوا في المجزرة، واتضح لي أن ما حدث في صبرا وشاتيلا قد تجاوز المجزرة الطارئة، وتعالت صيحات الاحتجاج، وخرجت المظاهرات تنادي (شارون روتزياخ) أي شارون السفاح، وتداخلت هذه الصيحات مع صيحات أنصاري (أريك ! أريك ! أريك ! ).
يقول (دايفد شانوف) الذي حرر هذه المذكرات مع (أرييل شارون) باللغة العبرية: لقد حظيت بتعاون واسع من بعض الإسرائيليين لدى تحريري هذا الكتاب.
وقام بترجمة هذه المذكرات إلى اللغة الفرنسية (غبريال روث)، وقام الاستاذ أنطوان عبيد بترجمة النص الفرنسي إلى العربية مشكوراً.
صدرت الطبعة الأولى للكتاب في بيروت عن مكتبة بيسان عام 1992، ويقع الكتاب في 766 صفحة من الحجم العادي.
نرجو أن تكون الصورة التي رسمها (أرييل شارون) بقلمه في هذه المذكرات قد وصلت إلى القراء الأعزاء، وأن يكونوا قد استوعبوا ما بين سطور هذا العرض الوجيز من دروس وعبر، والحمد لله رب العالمين.(تمت)
* * * *
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق