ذكريات مبتعث الى لندن
ذكريات مبتعث الى لندن
قـبـل السفر
أعيش هذه الأيام أجواء شهر صفر الحارة ، ولكنها لم تخلُ من متعة الشراء والاستعداد للسفر إلى لندن . وهذه الرحلة ليست للسياحة ولكنها رحلة تمثل منعطفاً جديداً في حياتي ( الحصول على شهادة الماجستير). غير أن متعة الاستعداد والتطلع للحياة في مكان جديد لم تدم . يعود ذلك إلى أنني أجريت عملية جراحية فذهب بريق الأحلام
و حل مكانه الألم ؛خاصة أن أيام السفر تقترب سراعاً . لقد أشعرني المرض بحالة من الضعف لأول مرة أعيشها بواقعيتها وحقيقتها.
قال لي الطبيب : سنجري العملية لك صباح الغد . أخذت أرتجف ونبضات قلبي تزداد . لم أدر كم من الوقت مضى ولكن أيقظوني في تمام الساعة الخامسة فجراً. أخذوني محمولاً على سرير متحرك نحو غرفة مليئة بالممرضين والأطباء والأجهزة . بعد ذلك رأيت أنوار سقف غرفة العمليات تتمايل ، وبعد ثوانٍ لم أعد اعرف أين أنا . أفقت على شعور ألم الجرح ودرجة البرودة تزداد . والدم من فمي لا يزال يخرج . مرّ يوم الإثنين كئيباً ومثله يوم الثلاثاء . أطلت علي الشمس في غرفة المستشفى بأشعتها صباح يوم الأربعاء . رأيت الحياة فيها . رحت أتأملها وأتأمل أشياء الغرفة ، فلقد استقبلتها بفرح كبير . شعرت أنها لبردي دفئاً و لوحدتي صديقاً جاء يواسيني من غير موعد . كان مرضي أول من لامس إطلالتها، واستقبلها بقلب ناره تضطرم في الجوف حزناً وكدراً. الدقائق والساعات والأيام أصبحت تمضي ببطء.
بـدايـة الـرحـلـة
في ظهر يوم الإثنين 27 / 3 / 1414هـ الموافق 13/ 9 / 1992م ، كانت للخطوط الجوية العربية السعودية رحلة عادية إلى لندن .أما بالنسبة لي فالأمر مختلف تماماً ، فاليوم بداية الرحلة نحو المجهول والاغتراب . اليوم يمثل بداية نقطة تحول في حياتي ، ولم ادر أي أحساس عزيز رافقني منذ الاستعداد للسفر . أهو الإحساس بالمسؤولية والإثارة ؟ أم هو الشعور بالخوف من الغربة و الإخفاق أو كلاهما معاً ؟ هذا المزيج من الشعور ذكرني بما كان يشعر به مارلو ، بطل رواية Heart Of Darkness أو "قلب الظلام " للأديب جوزيف كونراد . لقد كان يشعر قبل سفره إلى المجهول نحو أدغال أفريقيا وتحديداً في الكونغو بشعور يجمع بين الخوف والاشتياق .
في ذلك الصباح نهضت باكراً، ولبست بدلة وربطة عنق . نزلت وقد سبقتني حقائبي إلى السيارة . تَجَّمع بعض الإخوة والأخوات عند الباب وعانقتهم مودعاً . وكم تمنيت لو أنني لم أر أمي في زاوية المنزل وهي تبكي . تريد أن تودعني ولكنها تصارع نفسها وخطاها ، فتتقدم خطوة صغيرة إلى الأمام . تريد أن تأتي وأن تلقي عليَّ نظرة الوداع لكنها تغالب خطاها فترجع .
وصلت إلى المطار وأخذت أدفع حقائبي الثقيلة . أخذت بطاقة صعود الطائرة ، ثم توجهت وكان برفقتي إلى المطار أبي وبعض إخوتي . كانت الرحلة قرابة الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، وبما أن الوقت لا زال باكراً على موعد الإقلاع جلست مع والدي و إخوتي ممن كانوا يرافقونني إلى المطار في الطابق الثاني. أخذوا يتناولون الشاي والقهوة وبعض الكيك ، أما أنا فلم تكن شهيتي تقبل أي شيء ؛ فنفسي في اضطراب ، وقد كنت متوتراً إلى حد كبير لدرجة أنني كنت اذهب إلى دورة المياه بين فترة وأخرى . ( أخواني كانوا فاطسين علي من الضحك لأنهم شافوا وجهي منقلب وأنا كل شوي أروح وأجي من الحمام أعزكم الله). أعلنت الخطوط السعودية عن رحلتها .... زاد اضطرابي .... قبلت رأس أبي مودعاً ومن ثم ودعت إخوتي . دخلت الطائرة وجلست بالقرب من النافذة وقد انزاح عني في هذه اللحظة شعور التوتر والخوف .
هنا أتوقف عن السرد وفي الحلقة القادمة سأتحدث عن الوصول ولماذا أعطتني موظفة حجز الفنادق بمحطة فكتوريا ذلك الفندق بالذات.
أخذ المسافرون يملؤون المقاعد ، وملاحو الطائرة يقومون بإرشادهم . أقلعت الطائرة من مطار الملك خالد الدولي متوجهة إلى مطـار
" هيثرو " بلندن . جلست بالمقعد قرب النافذه وهذا مكاني المعتاد في الرحلات التي تكون بالنهار . اقلعت الطائرة ورحت التفتُ لأرى آخر لمحة من الرياض التي بدأت تتوارى عن ناظري شيئاً فشيئا ....
يا الله! لأول مرة أحس أنني أنفصل عن الرياض ، المدينة التي احتضنتني منذ أن كنت صغيراً إلى هذا اليوم ، و أتوجه نحو مدينة أخرى لا أعرفها .
تناولت وجبة الغداء ، وبعدها أخذت المضيفة تمر علينا وهي تقول : water ….water …water قفز إلى ذهني مشهد في فيلم " بعيد وناءٍ " Far and Away . المشهد يتحدث عن علاقة الإنسان بالأرض . فوالد بطل الفيلم جوزيف كان يقول
له : " الإنسان لا شيء بدون الأرض ... هي روحه ..هي كل شيء". أخذتُ أفكر بما عليَّ أن أقوم به عندما اصل إلى لندن : الذهاب إلى السفارة السعودية ...التسجيل في الكلية .....التسجيل في الملحقية الثقافية كطالب مبتعث ...البحث عن سكن . قلبت الكثير من الجرائد و بعد تحليق في الجو قرابة ست ساعات مررنا وسط أكوام كبيرة من الغيوم ونحن نهبط تدريجياً .
وبعد عدة دقائق بدأت ملامح مدينة لندن تظهر لنا شيئاً فشيئاً ،رأيت منازل متراصة على شكل أكوخ وأسقفها مطلية باللون الأحمر ومساحات شاسعة خضراء .
بدء قلبي ينقبض الآن واستمر معي هذا الشعور في كل مرة ازور فيها لندن ولا أدري لماذا؟!! أنهيت إجراءات الدخول و منحوني تأشيرة لمدة سنة بعدما أطلعتهم على الأوراق الرسمية التي معي ولم يستغرق الأمر سوى دقائق بسبب وجود أكثر من 20 موظفاً للجوازات لإنهاء تأشيرات جموع غفيرة من المسافرين وهم بملابسهم المدنية العادية. استلمت حقائبي ... أخذت حقائبي ...واصلت دفع عربتي وخرجت من الممر لأصطدم بمئات الوجوه والألوان الغريبة عني . أبلغت والداي بالوصول بعدها خرجت من المطار.
وما ان خرجت حتى صدمني البرد على وجهي فقد كانت درجة الحرارة 16 وهي لواحد من سكان الرياض تعتبر باردة. غصت بين هذه الجموع ....أخذت سيارة أجرة وهي بشكلها وطريقة تعامل سائقها مختلفة عما هي عليه في الرياض . فالحافلة لونها أسود ، وشكلها مميز ، و سائقها يساعدك في حمل الحقيبة ووضعها داخل السيارة . بعدها تغلق الباب وتربط الحزام ثم ، تخبر سائق الأجرة عن وجهتك حيث يقوم بدوره بتشغيل جهاز التسعيرة . وعندنا هنا يقف الهندي بعدما تؤشر له بيدك يفتح نافذته وتبدأ تساومه وما ان تركب تصدم انفك رائحته المميزة التي تدل على انه لم يتروش منذ شهر و ترى قميصه الأبيض وقد تحول الى اللون الأصفر من كثر الزيوت المتساقطة عليه من شعره ومن المستحيل ينزل حتى يشيل معك عفشك. ( ايه الله لنا ) المهم بعد حوالي ساعة وصلت إلى محطة فكتوريا قرابة الساعة السادسة مساءً بالتوقيت المحلي لمدينة لندن . وجدت محطة فكتوريا محطة سفر كبيرة وهي مليئة بالمسافرين والقادمين والمطاعم و البوتيكات . حجزت لي الموظفة غرفة في فندق " لورد هوتـيل " .وضعت حقائبي وخرجت بسرعة لأكتشف هذا العالم الجديد. كن سعيداً عندما مررت بطريق الصدفة بالمحلات التي تبيع المطبوعات العربية والمطاعم العربية.
شعرت بالإنتماء نوعاً ما . لقد أحسنت تلك الموظفة الاختيار عندما علمتُ في اليوم التالي أن هذا الشارع هو كوينز واي الذي تكثر فيه الملامح العربية وربما ملامحي العربية جعلت تلك الموظفة تختار هذا المكان على اتساع رقعة لندن وكثرة فنادقها . في صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى مقر السفارة السعودية في كورزن ستريت و سجلت الجواز وحدثني أحد موظفي السفارة السعوديين عن الدراسة في لندن بأنها صعبة ، فتكلفة الحياة المعيشية فيها غالية جداً ،كما لا يوجد بها نادٍ للطلبة السعوديين وعدد السعوديين المبتعثين فيها يعدون على الأصابع.
خرجت وأنا أفكر في ما سمعت . شعرت بأني أمام تحدٍ كبير منذ اليوم الأول لقدومي إلى لندن . ابتليت بالمطر . معظم المارة يمشون وهم ممسكون بمظلاتهم خشية الإبتلال بالمطر ما عدى أنا. بعد ذلك ذهبت إلى الملحقية الثقافية السعودية و سجلت من ضمن المبتعثين السعوديين.
الـبحـث عـن سكـن + التسجيل في الكلية
.... لقد حرصت على المجيء إلى لندن قبل الدراسة حتى أتكيف مع أجواء لندن الصاخبة. كان السكن الذي آمله أن يكون قريباً من الكلية حتى أستطيع المشي إليها دون الحاجة إلى الحافلات أو مترو الأنفاق. ذهبت أولاً إلى نزل للطلبة واسمه Victoria League Hostel فوجدت أن موقعه جيد جداً ويقع في ليستر سكوير . أجابتني مسئولة السكن انه للأسف لا توجد غرفة منفردة فمعظم الطلبة قد حجزوا غرفهم منذ فترة . ذهبت إلى نزل آخر وهو Polish Hostel
الذي لم يكن بعيداً عن النزل الأول غير أنه أقرب إلى شارع كوينزواي ولم أجد سكن فيه ايضاً. شعرت بخيبة امل وتعب فعدت إلى الفندق وأنا متعب جداً ورميت بنفسي على السرير وأحسست أنني مقبل على عبء كبير...عبء الغربة ...عبء الوحده ، غير أنني كنت أحس أن هذا المطر الذي لم يتوقف ويطرق نافذة غرفتي وكأنه صديق عزيز يسليني وسط هذه الجموع و البرد .
في اليوم التالي ذهبت إلى الكلية لمعرفة موقعها وبالقرب منها يقع University of London Union هذا المبنى عبارة عن مركز تجاري ورياضي لطلاب جامعة لندن ففيه ناد رياضي ومسبح كبير و مكاتب تقدم خدماتها السياحية ومركز تصوير وبنكان هما بنك باركليز و بنك ويست منستر وكافيه ومحل تأجير أفلام. وجدت الكثير من إعلانات السكن معلقة على ألواح الإعلانات وهذه سمة وجدتها هنا . وفي الكلية تجد ألواناً شتى من الإعلانات عن بيع كتب أو تصحيح وطباعة البحوث أو الرغبة في طلب تعلم لغة والإعلان عن المشاركة في سكن مع توضيح سعره الأسبوعي
وأقرب محطة مترو أنفاق قريبة له . سجلت بعض العناوين . ذهبت إلى أحدها بعد اتفاق مسبق مع صاحبه وكم كنت أود لو أسكن فيه لأنه قريب جداً جداً للكلية . هو عبارة عن شقة بغرفتين وصالة ومطبخ صغير وصاحبها يطلب من يشاركه السكن للمساهمة في تحمل أعباء المصاريف . كانت الشقة تقع في مبنى ضخم يقع على شارع توتنهام كورت رود بالقرب من محطة مترو أنفاق قودج ستريت ستيشن .
عندما فتحت باب المجمع وتوجهت صوب المصعد وجدت أنني اتخذت قراري مباشرة بعدم الرغبة في السكن هنا ؛ فهو مليء بالقاذورات والأوساخ وقديم جداً يشعرك بأنك في نهاية التاريخ بل في نهاية الحياة . فتح صاحب الشقة التي كانت في الطابق الخامس الباب وأخذني في جولة فيها . وجدتها صغيرة و مستهلكة و كل شيء فيها يحتاج إلى تجديد وربما حتى صاحبها .
أخذ صاحبها يمتدح بعض الأجهزة التي يملكها . لو كان يعرف ماذا يجري في نفسي لعرف أنني رفضت السكن فيها . اتصلت على صاحب السكن الآخر واسمه سيمون وحدد لي الساعة السابعة والنصف صباحاً موعداً لرؤية الغرفة . ولرغبتي في الحضور في الموعد المحدد ولجهلي بمترو الأنفاق ، فقد استيقظت في تمام الساعة السادسة صباحاً من ذلك اليوم .
فتح لي الباب وكانت هيئته تدل على أنه من أصول هندية . المبنى كان عبارة عن بيت فيه الكثير من الغرف وصاحبه يسكنه و يؤجر كل غرفة على حده ودورة المياه مشتركة و المطبخ مشترك أيضاً. راقت لي الغرفة فهي كبيرة و أجارها 70 جنيهاً إسترلينياً في الأسبوع أ ي ما يعادل حوالي 490 ريالاً وهذا لا يشمل فاتورة الكهرباء أو حتى الأكل وغسيل الملابس . وأشار لي سيمون أنه إذا أردت الكهرباء فعلي أن أضع نقودا في العداد الذي يعلو بابها لأن كل غرفة لها عدادها الخاص . كان رقم المنزل 50 و يقع في شارع لويد بيكر ستريت WC1 Lloyd Baker Street بالقرب من فندق هولدي إن
ويبعد عن الكلية 12 دقيقة فقط مشياً على الأقدام . وعلى الفور اتفقت مع صاحبها على السكن لمدة سنة ودفعت له أجرة أسبوعين مقدماً وأجره شهر تأميناً على محتويات المنزل . في اليوم التالي سجلت عنواني لدى الشرطة واستخرجت بطاقة إقامه وفيها عنواني وصورتي وغرض الإقامة في لندن ومختومة من الشرطة .
رتبت أغراضي لوحدي بعد أن أحضرتها من الفندق ، فهنا لا أحد يساعدك . لا أحد يقدم لك خدمة مجانية ، و عليك أن تقوم بحمل أغراضك مهما ثقلت بنفسك . وهنا بداية تعلمي لدرس الإعتماد على النفس . فالحياة هنا تفرض عليك هذا . كانت الغرفة باردة جداً . طلبت من صاحب المنزل بطانية ولو لهذه الليلة فقط فأجابني بأن عليَّ أن اشتري جميع أغراضي الخاصة. ونمت تلك الليلة متعباً وأنا والله انتفض من البرد.
التسجيل في الكلية
..... في ظهر يوم الأربعاء 13 / 4 / 1414هـ الموافق
29 / 9 / 1993م توجهت إلى كليتي وهي كلية الدراسات الأفريقبة والشرقية التابعة لجامعة لندن ويرمز لها SOAS وتقع بالقرب من روسل سكوير وقد لبست ربطة عنق و بدلة جديدة وفوقها معطف ضد المطر ، والحقيقة أن ملابسي أصبحت مميزه ؛ فقد لاحظت وبدون أدنى جهد أن معظم الطلبة هنا لا يهتمون بمسألة الأناقة والمظهر في اللبس فالمهم هو التدفئة بغض النظر عن تناسق الألوان وكنت اعتقد أن الطلبة والطالبات يأتون للجامعة وهـــــم في أحسن مظهر . اتضح لي عكس ذلك فلا رسميات في اللبس ولا شكليات . ولا ينطبق هذا على الطلبة فقط . فقد لاحظت هذا على اغلب الناس هنا في لندن عندما كنت أتجول في شوارع لندن ومتاجرها لتأمين بعض الأغراض وبعض الملابس الثقيلة.
ولكن اتضح لي أيضاً ، ومنذ الوهلة الأولى التي وصلت فيها إلى لندن ، معالم النظام في كل مكان ، فالناس تقف في الطابور في المطار وعند إشارات الحافلات ، والبريد ، وغيره كما أنه يوجد اهتمام بالغ بالعمل والجدية فيه واحترام المواعيد ودقتها . والكل مهتم ومنشغل بذاته فقط فلا أحد يضحك على أحد ولا أحد يحدق في الآخرين خاصة داخل الحافلات أو في مترو الأنفاق . تجد أن كلاً منهم مشغولاً بنفسه فهذا يأكل وتلك تقرأ صحيفتها المفضلة.
اليوم هو الخميس 14 / 4 / 1414هـ الموافق
30 / 9 / 1993م ، والوقت الآن الظهر وأنا في المكتبة . وبينما كنت اقلب بعض الكتب إذا بمن يضرب على كتفي . سألتني بلغة عربية فصيحة : هل أنت عربي ؟ نعم ! صافحتني وهي تعرفني بنفسها : أنا فلافيا من ايطاليا وتحديداً من باليرمو .
أنا هنا لأجمع بعض المعلومات عن بحثي وهو عبارة عن الوجود الإيطالي في دول شمال إفريقيا . ساعدتها في البحث عن الكتب التي أرادتها ؛ فقد نفعتني جولتي مع المرشدة أمس . تناولنا القهوة في محل للقهوة بالقرب من محطة مترو أنفاق روسل سكوير وكنا نلتقي في بعض الأحيان في هذا المقهى بين الحين والآخر .
في يوم شديد الغيوم والبرد والمطر كنا في المقهى فطلبت منها أن اقرأ عليها بعض الشعر فراقت لها هذه الفكرة فأخذت أقرأ عليها بهدوء وأنا انظر في عينيها الصحراويتين :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء .... كالأقمار في نهر (بدر السياب)
ولأن لغتها العربية جيدة فقد أعجبها الإيقاع الموسيقي هنا . افترقنا وكان هذا آخر لقاء بيننا الذي لم يدم الا عدةأيام فقط.
بداية التأقلم
بعدما الاتفاق مع صاحب السكن على الأجر، قمت بتأمين حاجاتي : بطانية وشرشف وغيره وطبعاً لأنني لا أجيد الطبخ فكنت اشتري بعض الوجبات الجاهزة من " تيسكو " وأسخنها في المايكرو ويف . وهذا المايكرويف له قصه معي: مرة وفي الصباح كنت أقوم بتسخين بيض مسلوق فأنفجر داخل الجهاز. خشيت ان يدري صاحب المنزل ولكن الحمد الله وقتها كان قد غادر المنزل باكراً.
لو درى كان سوى لي فيها محاضرة. المهم صار لي برنامجي العادي أصحو في تمام الساعة الثامنة الا ربع ...افطر ...استعد للكلية واتجه لها مشياً .
بدأتُ بالمواظبة على حضور المحاضرات . تم تسجيل المواد الأربع لي تلقائياً بمجرد دخولي في هذا القسم وهي : الترجمة العملية و نظرية الترجمة و اللغويات العامة و اللغويات المقارنة . كانت أيام الدراسة من يوم الثلاثاء إلى يوم الخميس الذي يعتبر ازحمها في الدراسة .
وكم كنت أعود إلى غرفتي وأنا منهك في هذا اليوم. وفي محاضرة " الترجمة العلمية " تنضم إلينا جين الإنجليزية و عبد الرحمن الماليزي وهما من طلاب ما يسمى في نظام الكلية بـ Aerial Studiesوهذا يعني عدم التخصص في مجال واحد ؛ بحيث يمكن للطالب أو الطالبة اختيار أربع مواد متنوعة في عدة مجالات كالتاريخ و السياسة و وغيرها .
كان نظام جلوس الطلبة يختلف عمَّا تعودت عليه في جامعة الملك سعود الذي هو عبارة عن صفوف ، أما هنا فكنا نجلس وجهاً لوجه ، فأنت ترى الآخرين ، والجميع يرونك وكأنك في مؤتمر صحفي . وهذا طبعاً يفيد أثناء إثارة النقاش. أما إذا كنت تشعر بالنعاس ، فلا مجال لك للجلوس في المحاضرة . من أمتع المواد عندي مادة " الترجمة العملية " Practical Translation وكان يدرسها الدكتور عبد الحليم وهو من جمهورية مصر العربية وقد تعودنا أن نناديه خلال المحاضرة بــ " أستاذ عبد الحليم " أو " أستاذي " .لاحظت على المحاضرين هنا التواضع والتعامل مع الطالب أو الطالبة بتعامل رفيع وإعطاء الطلبة مجالاً كبيراً للنقاش والمداخلة والاعتراض وإبداء وجهة النظر .
كما لاحظت أن الجو التعليمي العام في المحاضرات يهتم ويركز على التحصيل العلمي للطلبة مما يجعلهم يبتعدون عن السؤال عن الدرجات والتركيز عليها كما كنا نفعل في كلية الآداب .
من المواد التي كنت أضيق عندما اجلس فيها مادة اللغويات العامة General Linguistics، ويدرسها الدكتور " بينت " . والسبب ليس في المحاضر فهو طيب الخلق ولكن شعوري ذلك يعود إلى كرهي لعلم اللغويات. في المحاضرة كان ( يضيع) وهو يتكلم ويذكرني بالشيخ الطنطاوي الذي يبدأ بالحديث ولا يدري أين ينتهي به المطاف. في هذا المحاضرة كنت أجلس أنا وزميلي عبد اللطيف وهو من المغرب في آخر القاعة ويكون المحاضر في وادٍ ونحن في وادٍ آخر ، ولحسن الحظ فإن المحاضرة كانت مليئة بالطلبة والطالبات مما يجعل المحاضر لاهياً عنا ..
مضت بي الأيام هكذا التزام في الدراسة ومحاولة التكيف مع هذا العالم الجديد. من الأمور التي عانيت منها أن الأيام والأسابيع تمضي دون إجراء امتحان لنا وهذا جعلني اشعر بعدم الرغبة في المذاكرة طوال الوقت وذلك بخلاف كلية الآداب في الرياض ، فما أن تمر ستة أسابيع حتى يحل الامتحان الشهري الأول ، وبمرور مثلها ثانية يحل الامتحان الشهري الثاني . كما أنني متخرج من مدرسة أكاديمية تقول إنه إذا أردت الحصول على درجات عالية فما عليك إلا القيام بحفظ ما في المنهج .
أما في SOAS ، فالأمر مختلف تماماً ؛ فعليك الدخول في النقاش مراراً و إبداء الأسئلة وطرح وجهة نظرك ، خاصة أن الترجمة تتقبل العديد من الآراء.
في صبيحة أحد أيام الثلاثاء ، حضرت إلى محاضرة أستاذي عبد الحليم متأخراً فقد كان سقوط المطر غزيراً ، والجو بارد جداً في ذلك اليوم ولم أستعد له باكراً فأخذت أجري وسط جموع المارة والمطر يبللني والبرد حوَّل أنفي إلى كومة من اللون الأحمر . دخلت القاعة . ألقيت السلام . سألني الدكتور :
ــ إيه ما لك اليوم ؟
ــ حبسني حابس يا دكتور . نهضت متأخراً ، وسقوط المطر شديد صباح اليوم ، ولم استعد له .
سألني عن طارق وهو زميل من سوريا فقلت له وأعتقد أنه ترك الكلية إن لم يترك لندن ، وسافر عائداً إلى بلده سوريا بسبب الصعوبات التي واجهها في لندن. من الزملاء أمينة مثل طارق فمع مرور الأيام في الكلية بدأ طريقها يأخذ مسار الإخفاق . هي إحدى الطالبات من السودان التي تدرس معنا في هذا البرنامج. كانت ضعيفة في اللغة الإنجليزية واللغة العربية معاً . وأتذكر جيداً في يوم موعد تسليمنا البحوث للدكتور ايدواردز ، التفتت إليَّ في القاعة وسألتني وهي مندهشة :
ــ متى أعطانا الدكتور هذا الواجب ؟ وكان هذا سؤالها الروتيني لي دائماً .
كان زميلنا عبد اللطيف يواري ضحكته خلف يديه عندما يسمع سؤالها ؛ أما أنا فكنت أمسكها غصباً عني حتى لا تظهر عندما تطرح هذا السؤال الروتيني . لا أدري لماذا اختارت أمينة هذه الجامعة المعروف عنها شدتها وعدم التضحية بسمعتها بمنح الشهادات بسهولة ؟ ،ولا أدري لماذا تختارني لطرح سؤالها المعتاد ؟ . كان من المفروض عليها أن تعرف مستواها أولاً ، ثم تختار البرنامج الذي يناسبها . وما أدهشني أنها كانت حاضرة معنا وقت تحديد مواضيع البحوث ، ولكن يبدو أنها كانت في القاعة جسداً وفي قارة أفريقيا روحاً . ولهذا لا غرابة في أن تجد اسمها من ضمن الراسبين في هذا البرنامج مع نهاية الدراسة في الكلية . وأكاد أجزم أنه لو رأتني وأنا أدخل الكلية في نهاية السنة لاستلام النتائج النهاية فإنها ستقول لي :
ـــــ أحمد ... أحمد ... أقيف ..أقيف ... داير أقول ليك شينو ... تعرف الامتحانات النهائية أمتين؟
لم تكن عندي محاضرات في يوم الجمعة ، كما أشرت إلى ذلك ، ولكن بسبب إجراء البحوث و الإطلاع كنت أحياناً أذهب في أيام الجمع إلى الكلية. وكنا الطلبة المسلمين نصلي صلاة الجمعة في قاعة كبيرة من قاعات الكلية في الطابق السفلي ؛ وذلك مع التنسيق مسبقاً مع مسئوليها . نقوم بفرش السجاد ، ثم نضع حاجزاً من كراسي القاعة ليستر المصليات ، ثم يقوم أحدنا ويخطب . بالنسبة لصلوات الأيام العادية كنا نصلي في مجموعات صغيرة جداً في غرفة مكتوب عليها Prayer Room في الدور الثالث . في أحد هذه الأيام ، وبعدما انتهيت من صلاة الجمعة ولأنني انتهيت باكراً من المكتبة ، تقت لتناول كوباً من الكاباتشينو فما وجدت أفضل ولا أحسن من ذلك المقهى الذي كنت أنا و فلافيا نجلس فيه بالقرب من محطة مترو أنفاق"روسل سكوير " Russell Square . تلك الفتاة الإيطالية الوضيئة التي قابلتها في أول أيام الدراسة .
يأتي النادل ويضع كوب الكابتشينو ويضع بجانبه الفاتورة . آخذ رشفة. أطلُّ بنظرة عبر الزجاج الذي تحول إلى زجاج ضبابي بسبب تباين درجة الحرارة داخل وخارج المقهى. أرى الوجوه من خلال هذا السديم تضيع في الزحام وتظهر وجوه أخرى . أحاول عبثاً أن أرسم صورتها وسط أشباه المارة ، فما استطعت . كان حضورها بالنسبة لي كالبريق الذي يضيء الأفق للحظة ثم يختفي. أخرج أحد دفاتري وأكتب :
حان وقت المساء
وتساقط المطر ....
تـغـيــير الـسـكن
أخذت أيام شهر ديسمبر تتناقص ، ولندن لبست ثوباً آخر ، فترى بعض الأشجار الصغيرة وقد علقت عليها عقود الأنوار المتراقصة وبألوان مختلفة في كل مكان استعداداً للكريسماس أي احتفالات عيد الميلاد .
في هذه الأيام ، ونظراً لتوقف الدراسة منتصف هذه الشهر ، قررت تغيير السكن بسبب كثرة المنغصات فيه فلا الهاتف مسموح لنا باستخدامه وهو للنزلاء مجرد جهاز استقبال فقط . و دورة المياه التي أسفل المنزل المسموح لنا باستعمالها بدائية ؛ فكم كنت انتفض من البرد إذا استحممت في هذه الأيام التي تصل درجة حرارتها إلى الصفر .
.... وبما أنني لا اطبخ ، فإنني يومياً أخرج لتناول وجبة العشاء . ومما ساعد في رغبتي في تغيير السكن ، سفر شري إلى خارج بريطانيا ، فأخذتها فرصة للبحث عن سكن آخر .
تذكرت أنه عندما كنت في الرياض ، أعطاني أحد الزملاء في الإذاعة عنوان سكن للطلبة وهو يمتدحه ويوصي به . قفزت من سريري كالمفزوع. بحثت عنه في أوراقي وجدته . كان يقع بالقرب من شارع قريت بورتلاند ستريت Great Portland Streetوقد سُمِّيتْ محطة مترو الأنفاق القريبة منه باسم نفس هذا الشارع . وعندما خرجت منها ، لم أخطئ مكانه فقد رأيت هذه العبارة International Students House مكتوبة على المبنى بخط كبير وواضح . حاولت أن أعرف مميزات هذا السكن . تجولت بداخله . قرأت لوحة الإعلانات ، ووجدت أنه مليء بالنشاطات . ففيه مطعم يقدم الوجبات الثلاث ، و يعرض فيلماً كل يوم أحد، وفيه يوم الثلاثاء يعتبر يوماً رياضياً فيمكن للطلبة لعب تنس الطاولة وإجراء تمارين الإيروبكس في الدور السفلي من السكن. كما أنه يتيح لغير الساكنين فيه العضوية مقابل رسوم رمزية للاستفادة من تلك النشاطات . ويعتبر هذا السكن تحت الرعاية الحكومية ، فقد افتتحته الملكة الأم إليزابيث رسمياً في 4 / 5 / 1965م . بالنسبة لي ، يعتبر موقعه جيد جداً ، فهو يبعد نفس مسافة السكن الأول عن الكلية وقريب جداً من حديقة ريجنتس بارك الكبيرة . وكساكن دائم Permanent Resident كان أجر الغرفة 80 جنيهاً في الأسبوع لغرفة منفردة ، أي حوالي ( 483 ) ريالاً وعليَّ دفع 300 جنيه إسترليني ضماناً يعود بعد انتهاء فترة السكن . وهذا يعني أن تكلفة السكن لغرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها 3× 4 في الشهر تصل إلى 1932 ريالاً سعودياً و قرابة 23000 ألف ريال في السنة!!!!
يا لهذا الغلاء !! أتذكر أنه بإمكاني أن استأجر شقة كاملة في الرياض وفي أحد الأحياء الراقية بأقل من هذا . وافقت على هذا ، ودفعت المبلغ ، وأخبروني أن غرفتي هي رقم ( 111 ) بالدور الأول ويمكنني استلامها في 1 / 1 / 1994م الموافق لـ 19 / 7 / 1414هـ
ومع حلول هذه اليوم ، وبعدما جهزت حقائبي وأغراضي ، كان التاكسي يحوم حول البيت قبل الموعد بدقيقتين . وشهدت درساً واقعياً آخر في الالتزام بالمواعيد . وبعدما رتبت أغراضي في الغرفة الجديدة بيومين وشعرت بالارتياح ، إذا بمسؤول السكن يرسل لي ولجاري خطاباً بأن علينا إخلاءها لإعادة فرشها وطلائها . فقد جاء الدور على غرفتينا . شعرت بالعجز ... شعرت بـالامتعاض الشديد.... لأنه هنا لا أحد يقدم لك المساعدة لوجه الله . فإخلاء الغرفة يعني أن عليَّ البحث مجدداً عن بعض الكراتين وملئها بأغراضي ، وإعادة وضع جميع أغراضي صغيرها وكبيرها في الشنط ، ثم حملها وحدي وإفراغها مرة أخرى في مقر السكن المؤقت وبعد الانتهاء من أعمال الدهان والفرش و تركيب الستائر ، عليَّ القيام بهذا المشوار لوحدي من جديد مرة أخرى . وقد علم الله ما كنت عليه من نصب بعد ترتيب أغراضي في الغرفة مرة أخرى .
مع مرور الأيام شعرت أن اختياري لهذا السكن كان موفقاً. ففي المساء تكثر فيه حركة الطلبة والأعضاء فيشعرك بالانتماء على عكس السكن الأول الذي ما أن أخرج من الكلية ، حتى أحس و كأنني أمشي في مدينة مهجورة لا أجد أحداً أكلمة ، و إن سنحت الفرصة فسيكون الحديث فقط لشراء أغراض أو وجبة عشاء . أدركت تماماً بأن اللندنيين على قدر كبير من التحفظ وعدم الرغبة للحديث مع الغير . ذهبت إلى قسم الشرطة في توتنهام كورت رود ؛ لأنه الأقرب إلى السكن الجديد لتسجيل عنواني الجديد عندهم .
إنني أعتبر أن انتقالي إلى سكن الطلبة هذا هو بداية تأقلمي مع الحياة اللندنية ، واندماجي فيها فأصبحت اقضي وقتاً في لعب تنس الطاولة وأحياناً أشترك في تمارين الإيروبكس الرياضية . كان السكن يقيم مرة في الأسبوع ما يسميه بالبيت المفتوح Open House وفيه يحضر من يرغب من الطلبة والأعضاء ومسؤولي السكن لتناول الكيك و البسكويت مع شاهي . وفي حفلة الشاي هذه تتاح لك الفرصة للنقاش وتبادل وجهات النظر ومقابلة زملاء وأعضاء جدد . وأتذكر جيداً أن أحد ضيوف هذا اليوم كان إدوارد هيث ، وزير الخارجية البريطاني الأسبق ، الذي ألقى محاضرة عن مستقبل اقتصاديات الدول النامية في مسرح السكن . لي زملاء في هذا السكن من غير الكلية أخرج واقضي بعض الأوقات معهم. كان أحدهم يدعى "كنت " من سنغافورة وهو يسكن في نفس الطابق ويدرس التسويق Marketing في جامعة ويست منستر. تعرفت عليه أثناء اشتراكي مع مجموعة من النزلاء والأعضاء في لعب التنس الأرضي في منتزه ريجنتس بارك. كنا في بعض الأحيان نذهب للعب معاً سوية ونستأجر ملعباً في ريجنتس بارك ويكلف استئجار الملعب 4 جنيهات إسترلينية بما يعادل 24 ريالاً للساعة الواحدة
.. وليست مشكلة الدفع هي التي تواجهنا بقدر ما هي صعوبة الحصول على ملعب .فالناس هنا تحجز الملعب قبل أسبوع ، وتشتد الزحمة في الصيف بسبب ظهور الشمس وبسبب مباريات التنس الأرضي في ويمبلي التي تثير المشاعر الرياضية لممارسة التنس الأرضي عند البعض . أحياناً يصادفنا الحظ في تأخر بعض من حجز ملعباً فنأخذ الملعب بدلاً عنه . و درجنا على أن نحجز للأسبوع القادم عندما ننتهي من اللعب . ولكم كنت أشعر ببهجة وفرح كبيرين عندما تطل الشمس على أجواء لندن فأخرج للمتنزهات وأرى البريطانيين يفرحون بها . ولكن شعوري نحوها يخالف شعورهم ؛ فهم يرون الشمس كزائر يجب أن يحتفل به ، أما أنا فكنت أراها وكأنها صديق من الأمس جاء ليزورني ، ولهذا علي أن استقبلها بكل فرح وشوق ، فظهورها هنا في وسط هذه الغربة ، أعاد بذاكرتي إلى الوراء ، عندما أجريت عملية في المستشفى قبل وصولي إلى لندن. لا زلت أذكر أنها أدخلت البهجة في نفسي عندما أطلت علي بأشعتها بعد انقطاع عن العالم والناس استمر لعدة أيام. ولهذا أشعر ، بعد أن تلاقينا هنا ، بأن أرد عليها التحية هذه المرة وأن استقبلها بكل ود وترحاب . وأن اجعل من لقاءنا هنا ، لقاء الأحباب في الغربة .
......وعوداً على موضوع الحديث عن الزملاء في السكن ، أذكر منهم " ناوايا " وهو من العاصمة اليابانية طوكيو. وهو يدرس الموسيقى " البيانو " في Trinity College لمدة ثلاث سنوات . كنت أسمع عن اليابانيين شغفهم بالعمل حتى لو زاد عن الحد المعقول . وقد رأيت ذلك حقيقة واقعة في شخص ناوايا ، فخلال أيام الأسبوع تراه مشغولاً بمواد الجامعة ، وفي أيام السبت ، يدرِّس في مدرسة تابعة للجالية اليابانية في لندن ويتقاضى على ذلك 350 جنيهاً إسترلينياً في الشهر أي حوالي 2100 ريال سعودي . أما في أيام الآحاد ، فيذهب إلى مدينة سماها وقد نسيتها الآن لعزف البيانو في كنيسة سويسرية . والكنيسة تدفع له أجرة شهرية إضافة إلى قيمة تذكرة سفره بالقطار . كما أنه جعل لنفسه حياة خاصة فلا نراه إلا في النادر ، وقد ضرب بالنشاطات التي تجري في السكن عرض الحائط . وأتذكر جيداً أنني لم أره في تدريبات الإيروبكس التي تقام مرتين في الأسبوع إلا مرة واحدة فقط .
و لا أنسى من الأصحاب البريطاني " زمان " وهو من أصل بنغالي . هو أحد الأعضاء في هذا النزل . وهو طيب الخلق معي . ولكن ما لم يعجبني فيه إصراره الدائم في كل مرة يراني أن يشتري لي مشروباً ؛ وقد أوضحت لي الأيام بمرورها أنه يعاني من عقدة النقصComplex .Inferiorityطرأت لي فكرة أن ابحث في نوعية هذه الشخصية ، فبحثت كثيراً في كتب العلوم النفسية والاجتماعية إلى أن وجدت أن أول من استخدم " النقص " كسمة لبعض أنماط الشخصيات هو الدكتور الفرد أدلر . لقد لاحظ ادلر أن كثراً من المرضى يميلون إلى ربط شكواهم بقصور بعضو معين في أجسادهم ولهذا فقد اكتشف أن الإنسان يتحول إلى المرض لكي يحل مشاكله النفسية. وبالتالي فإن هذا القصور يؤثر على حياة الشخص النفسية فيدفعه إلى تعويض هذا النقص بطرق عديدة.
حـياتـي في لـندن
.... كان ازحم أيام الدراسة فيها يوم الخميس. فكنت أرى الكلية بممراتها تعج بالطلبة من دول عديدة.وإذا كان الشمس بازغة تراهم يجلسون على درجات السلم الخارجية أو الاستلقاء في الساحة الخضراء بجوار الكلية والكل منشغل بما يروق له. كانت قاعة دروسي في الطابق الخامس ولا يخدم الكلية الا مصاعد ترك الزمن بصماته عليها. ممرات الكلية ضيقة اسمنتية والقاعة صغيرة. وعندما اجلس القي السلام على من سبقني.
....ومن زملاء برنامج الماجستير في الترجمة كما قلت لكم عبد اللطيف من المغرب و ابو ساره و يوسف من مصر و ديمه من سوريا و ميسون فلسطينية ( جنسية مغربية) وأمينه السودانيه و طالبه أخرى نسيتها. ولكن يكبر هذا العدد عند دراسة بعض المواد الأخرى فيدخل معنا طلبة وطالبات من أوروبا لهم اهتمام باللغة العربية. التفت لأرى المنظر خلف نافذة القاعة فأجد ان السماء لا تزال تسح بغيومها لا تزال. يقطع سكون القاعة احياناً اجراس الكنيسة المجاورة.
في الدور السفلي للكلية يوجد المطعم وملعب اسكواتش مغلق وقاعات مهيأة لمحاضرات عامة كنت احضر بعضها في المساء.
على أية حال مع مضي الأيام ، ألفت لندن ، وغدت مظاهرها لي عادية : زحمة الأقدام السريعة على الرصيف .... ارتداء الملابس الثقيلة ... تتبع أخبار الطقس ....حمل المظلة خشية الابتلال بالمطر ...التطلع للشمس ....الركض للحاق بأوتوبيس أو مترو أنفاق ... الوقوف في الطابور عند المسرح أو في البريد أو في البنك .
أصبحت أعيش في هذا النظام كجزء من لوحة كولاج رسمتها الأيام هنا بريشة الاغتراب بكل إتقان و وضوح. أي رأيتني بأنني جزء لا يتجزأ من الحياة العامة في لندن . فمن حيث اللبس أصبحت الأولوية هي التدفئة وليس المظهر . أصبحتُ استخدم محطات المترو في كثير من الأحيان دون الحاجة إلى خريطة أو استفسار من أحد .
متحف تيت غاليري بساحة الطرف الأغر
..... أجدني أحياناً ، أنزل عشرات الأمتار ، لأجد أن للندن وجوهاً أخرى . وجه للفن المهمل الباحث عن لقمة العيش باستجداء كرم المارة . وجه مليء بمحطات جوفية متشابكة . وعندما اصل إلى إحداها في باطن الأرض ، أجد أن أناساً قد سبقوني إليها فتتحرك عيناي بشكل عبثي لتتنقل بين صور الدعاية الكبيرة الملصقة على جدار المترو ، وكأنها بذلك تعيد رسم وجه لندن بشكل مغاير . وعندما أمل تلك الصور ، تتحرك عيناي هذه المرة لتبحث عن شاشة توضح موعد وصول القطار القادم . وعندما أحس أن الهواء بدأ يلاعب ملامح وجهي ، أعرف أن القطار قد دنى ، فأقف مستعداً ، وما أن أركبه حتى ينطلق بي مسرعاً . في بعض الأحيان ، لا أجد مقعداً فأظل مثل الواقفين الممسكين بأطراف متدلية من سقفه . وأن جلست ، أطيل النظر في أشباه وجوه الناس التي تعكسها النوافذ الزجاجية للقطار .
مع مضي أيامي هنا ، كنت أشعر بصداع يعكر صفو المزاج أحياناً . وعندما عرفت أن سبب صداعي المتجدد بين فترة وفترة هو نقص فيتامين C بسبب غياب الشمس لفترات طويلة و التي كنت قد تعودت عليها في الرياض ، أصبح عصير البرتقال عنصراً أساسياً في كل وجبة إفطار . كما أنني أصبحت اهتم بنشرات الأخبار الجوية لأعرف إن كان المطر سيهطل أم لا ، لأحمل الشمسية معي قبل الخروج . لقد أدى الاغتراب بشقيه الزماني و المكاني إلى أن تتبدل مشاعري نحو المطر . ففي أيامي الأولى في لندن كنت أفرح عند هطوله ، بل إنني كنت أسير في الطرقات والشوارع حتى أجعل المطر يبللني . كنت أحس بأنني أشارك السماء فرحتها بهطول المطر ، وأحياناً أحس أن لندن فرحت بلقائي وما وجدت أفضل ما تقدمه لي اصدق تعبيراً من المطر .
منطقة البيكاديللي النابضة بالحياة
والآن ومع مرور الأيام ، اتفق مع مذيع النشرة عندما يعلن أسفه بأن يوم غد سيكون ماطراً . ولكم كنت أشعر بضيق وحزن عندما أفتح ستارة غرفتي في الصباح وأجد أن لندن قد بدت صامتة وحزينة ومكتئبة بسبب أن الأمطار لا تزال تعانقها بود مرفوض منذ البارحة . وهذا يعني أن المدلول الروحاني المليء بالفرح و الابتهاج بسقط المطر الذي نشأ في نفسي منذ الصغر في الحارة بالرياض ، قد تغير إلى أن أصار مثار حزن وكآبة واختناق.
تجربة صيام رمضان في الغربة
دخل عليّ شهر الصيام ونحن في شهر فبراير لعام 1994م بعد أن أنهيت الفصل الدراسي الأول وبدأت الفصل الدراسي الثاني . وقبل حلول هذا الشهر الكريم ، كنت قد ذهبت إلى المركز الإسلامي في ريجنتس بارك لأخذ مواعيد الإفطار والإمساك . أتذكر قبل حلول شهر رمضان، بأسبوع وبعد أن جلس الدكتور عبد الحليم في مقعده المعتاد في القاعة ، بادرته بالتهنئة لقدوم شهر رمضان ثم ألحقت التهنئة بتوجيه اقتراح أن تبدأ المحاضرات من الساعة العاشرة صباحاً بدلاً من التاسعة . تداولنا الاقتراح ولم ننجح لقد كنت أعاني اشد المعاناة في الذهاب إلى الكلية مشياً وأنا صائم .
ففي صباح أول يوم من رمضان وفي طريقي إلى الكلية الساعة الثامنة والنصف ، رأيت كل من حولي يأكل ويشرب . أحسست أنني أنا الصائم الوحيد في هذا العالم . كنت أتحاشى المشي خلف المدخنين الذين يمشون أمامي على الرصيف . لقد تغير برنامجي الزمني وكأنني في الرياض . فأصبحت اسرق ما أجده من ساعات النهار خارج الكلية حتى أنام وأسهر حتى حلو.
كنت اسهر حتى يحين وقت السحور وأتناول وجبة عبارة عن ساندويتش جبن أو بيض مع كوب من العصير، وهذا هو كل سحوري ، فأصلي الفجر ، ثم أنام قرابة الساعة الخامسة والنصف صباحاً . ثم أعود وأصحو في الساعة الثامنة والنصف وأذهب إلى الكلية وأنا أرى لندن بكاملها ، بناسها وشوارعها ومبانيها وسيارتها ، تتراقص ، وتتمايل أمامي بسبب قلة النوم. وبعد انتهاء المحاضرات في الساعة الثالثة مساءً تقريباً ، أعود إلى غرفتي وأنام ثم أصحو على صوت المنبه الساعة السادسة والنصف فأنزل إلى المطعم لتناول وجبة إفطاري . كنت اتضاحك مع الزملاء وأقول لهم : إنكم تتناولون عشاءكم أما أنا ، فهذه الوجبة هي إفطاري .
عندما حل هذا الشهر الفضيل ، حمدت الله أنه لا توجد محاضرات يومي الإثنين والجمعة . ولكن لن أنسى يوم الخميس الذي أعتبره أقسى أيام الأسبوع بسبب كثرة المحاضرات فيه . وكم كنت أرى الكلية تعج بالطلاب في هذه اليوم بالذات من كل أسبوع .
في أحد أيام الخميس هذه ، كنت متعباً إلى حد كبير بسبب الصيام وقلة النوم . وبعد الانتهاء من حضور إحدى المحاضرات ، اتجهت إلى إحدى القاعات الصغيرة بالكلية وأقفلت الباب من خلفي ، ورميت نفسي على الأرض بجانب مدفئة الزيت الجدارية ، ثم التحفت الجاكيت البني الذي كنت ألبسه . لم يتطلب الأمر مني سوى ثوان حتى أغوص في نوم عميق . وكم كنت في غاية الدهشة عندما أدركت بعد أن صحوت أنني نمت أكثر من ثلاث ساعات . وعندما خرجت من القاعة ، قرأت جدول المحاضرات المعلق على بابها وعلى الفور وجدت تفسيراً لمحاولات البعض فتح باب القاعة بقوة لحضور المحاضرة المجدولة فيها . إن نومي فيها يعني أنني حرمت الطلبة من حضور الدرس فيها لهذا اليوم ، و لا بد أن الطلبة ومعهم محاضرهم بحثوا عن قاعة بديلة .
وبالحديث عن القصص التي حدثت لي في هذا الشهر فإنني لازلت أتذكر أنني سعدت عندما وجه زميلي عبد اللطيف الدعوة لي لتناول وجبة الإفطار معه و (زوجته) الفرنسية مساء غد. استعددت للخروج لهم . ركبت قطار مترو الأنفاق الموشح باللون الأسود أو ما يسميه الناس هنا بالخط الشمالي "Northern Line " متجهاً صوب محطة ستوك ويل Stockwell في جنوب لندن . استقبلني عبد اللطيف وزوجته الفرنسية بترحاب ، وقد وضعت ما أحضرته لهم معي على الطاولة في صالة المنزل الصغير . ولجوعي فقد رحت أتخيل بأنني آكل من أشهى و ألذ الأطباق الفرنسية التي ستقدم وأنا أتبادل الحديث معهما. وعندما دخل وقت آذان المغرب ، جلسنا على طاولة وليس بها سوى جبن وعسل وقطعتين من شرائح التوست المحمر اليابس . أخفيت معالم صدمتي وأنا اشكرهم على حسن ضيافتهم . ركبت قطار مترو الأنفاق ، الذي انطلق بي مسرعاً بطقطقاته المعهودة ، عائداً إلى غرفتي. أخذت استرجع تفاصيل تلك الضيافة وأنا أرى أشباه الناس ، والأنوار من نافذة القطار .
لقد شعرت بخيبة أمل كبيرة . ومرد هذا الشعور ليس في غياب الأكل الدسم الذي رسمته في مخيلتي بقدر ما هو إخفاق عبد اللطيف و زوجته في فهم معنى " الإفطار " في رمضان .
لقد قادني هذا الموقف في تلك اللحظة بالذات والقطار لا يزال يمشي على عدة محطات إلى إدراك حقيقة وهي إخفاق البعض منا في التعامل مع مصطلح العبادة في الإسلام وإعطاؤه المعنى الظاهر في تعاملاتنا اليومية . شعرت بأن المعنى الدلالي لشهر رمضان ليس في الأكل عند الإفطار ، أو الامتناع عنه في النهار ، أو في تغيير نمط الحياة بقدر ما هو محاولة لإيقاظ الذات من سباتها وجرها نحو ملكوت الله ومحبته من خلال مضاعفة الأعمال الصالحة و تحسس حاجات الفقراء.
حلول عيد الفطر السعيد
قمت مضطرباً عندما تذكرت زكاة الفطر قبل ليلة فقط من حلول العيد ، فاتصلت بالمركز الإسلامي وأوضح لي أحدهم بأن أضع جنيهين إسترلينيين في الصندوق الموجود أمام مدخل المصلى في الداخل . لبست ملابس رياضية ، وأخذت أجري متجهاً نحو المركز .في ريجنتس بارك . و بعدما وضعت النقود في المكان المخصص لها ، قرأت إعلاناً يشير إلى أن صلاة العيد ستقام غداً أكثر من مرة ، وفي أوقات مختلفة تفادياً للزحمة المتوقعة . ورتبت وقتي على الحضور لصلاة الساعة العاشرة صباحاً .
منزه ريجنتس بارك الذي امرعليه كلما أردت الذهاب الى المركز الإسلامي
نهضت في صباح يوم العيد ، الذي حل في يوم 13 / 3 / 1994م وتناولت إفطاراً خفيفاً ، ثم لبست بدلة كاملة من قميص وربطة عنق وتعطرت ورحت أمشي إلى المركز الإسلامي . دخل الخطيب وألقى الخطبة باللغتين العربية والإنجليزية . ثم أديت الصلاة مع جموع غفيرة من المسلمين . رفعتُ كفيَّ أدعو الله أن يوفقني في دراستي وأن أعود إلى أهلي سالماً . كما دعوت الله لأمي وأبي و جميع إخوتي . وبعد انقضاء الصلاة ، رأيت الكثير من أفراد الجاليات الإسلامية يهنئون بعضهم بعضاً . خرجت من المسجد . جموع كبيرة رأيتها تخرج أمامي . وجوههم اختلفت عما تعودت أن أراه وسط لندن ولكن بالنسبة لي شعرت وأنا امشي وسطها بأنها أيضاً لا تزال مجرد " مظاهر " . شعرت بالحزن بسبب مرور أول عيد في حياتي وأنا بعيد عن الأهل ... بسبب إحساسي بعدم الانتماء لهذا الجمع الجديد... بسبب أن فرحتي بالعيد لهذه السنة جاءت مختلفة عمَّا كانت عليه عندما كنت في الرياض. ولكن ما لبث أن اختفى هذا الحزن وانزاح أمام إحساسي بأن الفرحة هنا ليس في الفرحة نفسها بوجودي مع ناس أعرفهم بقدر ما هي محاولة للتمتع بالفرحة حتى وإن كنت وحيداً . و من هذا اليوم ، بدأت أتعلم الاستمتاع بالفرحة ذاتياً مهما صغرتْ على الرغم من اختلاف واقع وطبيعة مشاعري الذاتية للمشاعر المحيطة بي بشقيها الزماني والمكاني. وقد تطور هذا الشعور عندي ونما إلى أن تعلمت كيف أضحك أمام الأقارب و الأصدقاء الجلساء من حولي و قلبي يتجرع مرارة الألم كالطير المضروب بالنار يتراقص ألماً ويحسبه الناس أنه يتراقص فرحاً .
وبما أن يوم العيد حل يوم الأحد فقد أبدلت ملابسي وذهبت عند الساعة الثالثة مساء لألعب التنس الأرضي في منتزه ريجنتس بارك كعادتي في معظم مساء أيام الآحاد . بهذا انهيت يوم العيد وبذكرى العيد تنتهي هذه الحلقة وقريباً الحلقة القادمه وفيها صراعي القوي مع الحنين والغربة
....... ووداع لندن
واصلت اجتماعاتي بالدكتور بروس وواصلت قراءاتي لبحثي الدكتوراه في المكتبة . وبالبحث بين المكتبات ، وجدت عدة ترجمات لمعاني القرآن الكريم . كما أنني ذهبت إلى مدينة ريدنغ التي تبعد عن لندن ساعتين بالقطار لجمع بعض المواد والنصوص من مكتبة جامعتها المسماة باسمها . ومضت الأيام وأنا أواصل البحث والتعمق في القراءة ومن ثم الكتابة. بطبيعة الحال تفرق اصحاب الدراسة فلم اعد ارى منهم احد. ومع تركيزي على البحث قل ايضاً خروجي مع زملاء السكن. احياناً وحتى اخرج من عالم الصمت الذي اعيش فيه اخرج لأتمشى في شوارع لندن فأصبحت مثل طفل راح يلعب فأراد ان يعود الى بيتهم فظل الطريق.
.... بقيت على هذه الحالة فصلاً دراسياً كاملاً إلى أن جاءني اتصال من الرياض أزال في لحظة كل مظاهر الفرح للحصول على شهادة الدكتوراه . فلجنة ابتعاث موظفي الدولة التابعة للخدمة المدنية رفضت تمديد فترة بعثتي.
وعلى الفور ، أخطرت الكلية بذلك رسمياً. بعد ذلك اتجهت إلى الملحقية الثقافية السعودية حتى أقوم بإنهاء بعض الترتيبات. قمت بتصديق الشهادة .
أخبرت زملائي في السكن بأنني سوف أغادر إلى الرياض غداً . ولهذا قررنا أن نقضي هذه الليلة معاً . عندما كنا نضحك ونسترجع أيامنا التي قضيناها معاً ، كنتُ أشعر بمزيج من الحزن والفرح .
وكم كنت أتضاحك أمامهم وأنا أبكي في ذاتي على ضياع فرصة الدكتوراه وعلى فراقي لهم .
يا لها ليلة من ليالي لندن الكئيبة. أهكذا أيامي فيها تنتهي بهذه السرعة ؟......أهكذا حلمي ، بلا دموع ، يموت في لحظة فأحزن في كل لحظة ألف مرة ؟
خرجنا بعد العشاء للمشي . وعندما وصلنا إلى تقاطع شارع أكسفورد مع شارع غريت بورتلاند ، كان علينا أن نفترق. لم أستطع التحدث . والله غصت الكلمات في حلقي ورفضت الخروج ، وكأنها بدورها لا تريد أن تودعهم. فودعتهم بنظراتي فقط. بكى منهم من بكى . أخذت ألوّح لهم بيدي ، وفي فمي ابتسامة والقلب يعصره ألم الفراق ، في الوقت الذي بدأتُ أبتعد عنهم شيئاَ فشيئاً ، وهم ما برحوا في مكانهم يلوحون مودعين. وما أن أدرت ظهري ، حتى كادت دموعي أن تسقط. بعدما دخلت غرفتي اتجهت صوب نافذتها .ازحت الستارة اخذت أتأمل الماره والمباني والشارع القريب للسكن وكأني أول مره أشاهد هذا المنظر.
..... لم أكن أتخيل أن فراقي للزملاء ولندن سيكون بهذه السرعة و هكذا فجأة . لم اعتقد أبداً في يوم من الأيام أن هؤلاء الأصدقاء إنما هم في الواقع أصدقاء عابرون نظراً للعلاقة القوية التي تربطنا ونحن من أقطار مختلفة .
حزمت حقائبي استعداداً للسفر مساء الغد.
في مساء الثاني عشر من شهر رمضان المبارك من عام 1415هـ الموافق للحادي عشر من شهر فبراير لعام 1995م ، جاءت سيارة الأجرة في الوقت المحدد لها . اتجهت بي صوب مطار هيثرو . أخذت أنظر عبر نافذة السيارة . يا الله ...لندن تودعيني بشوارعها وبناسها وبمطرها ....ذلك المطر الذي كان بالأمس مثار فزع وكآبة لي أصبح اليوم غير ذاك .....عاد الشوق والحنين إليه بعد أن انفصلا بيني وبينه منذ زمن ...
.... و هذا المطر الذي بدا يبلل أيام الغربة ليجعلها تورق من بين حنايا النفس بذكريات لا تنسى على شواطئ الغربة.... ذكريات لن تعود أبداً بحلوها ومرها . أخذت ألقي نظرات الوداع على لندن . أحسست أنها تبكي بالمطر من أجلي... ليتني أستطيع أن أجعل هذا المساء يطول بأمطاره... فلا سفر ..... ولا رحلة ... لكنه الزمن العنيد جعلني أحس أني مخلوق ضعيف يعيش أرذل العمر قبل أوانه ...ضعت في أسئلة الزمان أبحث عن إجابة للغريب الذي كان هنا ، ثم أصبح صديقاً للمدينة هنا ....لمدينة تدعى لندن .... أوَتذكرني لندن بعد أن أغادر ؟ وهل ستذكر أني في أيام مضت ، كنت أخطو في شوارعها بكل فرح وابتهاج ؟ أو يا ترى هل ستذكرني إذا ما عدت إليها من بين ألوف الوجوه التي تركض على أرصفتها ؟ ما أصعب الفراق ولكنها النهاية ...الانتهاء ....وموسم العودة إلى ارض الوطن .
أخذت أدحرج حقائبي على إحدى العربات في الصالة رقم 3. وبعدما أنهيت إجراءات السفر ، مررت عبر بوابة المغادرة ،
و قضيت الوقت في التجول في السوق الحرة وهو سوق تجاري به العديد من المحلات التجارية الكبيرة ، ولا يخضع للضرائب وعلى المشتري إبراز بطاقة الصعود في بعض الأحيان ؛ لأن الخصم لا يمنح إلا للمسافرين فقط . بعدها اتجهت صوب بوابة الخطوط السعودية .
بعدما أقلعت الطائرة في رحلة تستغرق ست ساعات، بدأت لندن تتوارى عن ناظري شيئاً فشيئاً خلف ضبابها الرمادي الداكن المعتاد ....لندن التي تعلمت منها الانضباط واحترام المواعيد ....لندن التي منحتني ، وعبر رحلة إلى المجهول منها ومن شخصيتي أن اكتشفها وأكتشف من أنا ....لندن التي عودتني على الاعتماد على نفسي .... على تحمل الآلام وأنا أمشي بين طرقاتها وناسها .... لندن التي منحتني الفرصة حتى اعرف كيف أن أحب وإن اختلفت اللغات . ترى ، ماذا سيفعل هذا الزمن بذكريات المرض والحنين والشوق للأهل ؟ ماذا سيفعل بدموعي التي سقطت غصباً عني في يوم بل في لحظة حزن وأنا غريب هنا ؟ ماذا سيبقي لي من أيام الضحكات عندما كنت أنا والأصدقاء نمشي عبر شارع البيكاديلي أو ميدان الطرف الأغر؟ أدركت في هذه اللحظة فقط أن للندن ألف وجه وأنها منحتني أجمل وجه .
أعلن أحد ملاحي الطائرة أن علينا ربط الأحزمة استعداداً للهبوط . شعرت بأن الطيار اختصر الطريق وكأن الزمان أراد أن يصالحني .
وعند خروجي من صالة القدوم الدولية بمطار الملك خالد الدولي ، شاهدت أبي . قبلت رأسه بحرارة ، عانقت إخوتي. تذكرت يوم وداعي لهم في بداية البعثة ، فبدت هذه الأحداث والذكريات والمواقف المتقلبة بين الحزن والفرح والمرض في لندن و كأني عشت أيامها بين عشية أو ضحاها ، أوكأنها كانت مجرد حلم لتوي أستفيق منه .
ما اقسى الوداع ....اراه كالنهاية التي تثير فينا الدموع غصباً عنا .
كنت تقرأين الأسطر وتبحري فيها كطبيب مداوي يبحث عن مرض وسط جسم يراه الناس متعافياً.
ووجدتيه وعرفت فعلاً اصدقائي الذين اتخذتهم هناك. نعم سكون الليل اشعة الشمس والمطر ولعلي اضيف اليك احد اصقائي وهو الحزن
هم صدقوني ....رافقوني.....مدوا اكفهم عندما كنت ابكي وظهر على محياهم الارتياح عندما كنت ابتسم وانا امشي في طرقات لندن وامشي لأجعلني ابتل بالمطر.
اتعلمين اني ايضاً اشفقت على نفسي عندما نمت بجانب المدفأة. احسست وقتها كطفل جائع يبحث عن صدر حنون ولم يجده.
صدقيني اذا قلت لك ان لندن فعلاً علمتني كيف اواري حزني وراء ملامحي وانا بين الناس وعندما
اكون وحدي لا اكف عن اذرف قطرات الحزن . لندن احبها احبها .... اتعلمين انها اهدتني اول ....لي وان اختلف اللغات بيني وبينها . من اسبانيا كانت ولكن هناك لغة كانت اقوى من جميع المسافات ....لغة الإلتقاء في الغربة
اتمنى لك التوفيق في دراستك ولحظة انتظرها ان تطلي من خلف سحب اوكرانيا ولكن يا ترى متى ....متى....متى؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق