شمس الامل تمحي كل يأس

قراءة في مذكرات أرييل شارون الحلقة: (1 من 2)

قراءة في مذكرات أرييل شارون عرض: محمد علي شاهين الحلقة: (1 من 2) ليس من اليسير قراءة الأحداث الخطيرة على أرض فلسطين قراءة واعية دون الرجوع إلى سيرة رئيس وزراء إسرائيل الحالي (آرييل شارون) . ومن أجل ذلك رجعنا إلى السيرة الذاتية (لآرييل شارون) التي حررها بالعبرية (دايفد شانوف) ونقلها من الفرنسية إلى العربية أنطوان عبيد، والمنشورة عام 1992 في بيروت في 766 صفحة . ونظراً لأهميتها قمنا باختصارها ونشرها على حلقتين في الغرباء دون إخلال بمبنى المذكرات ومعناها . __________________________________________________ يقول (آرييل شارون) ولدت عام 1928 في القرية التعاونية (كفر ملال) على بعد خمسة وعشرين كيلو متراً إلى الشمال الشرقي من تل أبيب، حيث كان والديّ قد استقرا فيها عام 1922 . لم أعرف علامات المودة في كنف عائلتي، فأبي (صموئيل) وأمي (فيرا) كانا من طينة مختلفة تماماً، كانا معروفين بطبعهما القاسي، فلم يكونا يفصحان أبداً حتى عن عواطفهما الأكثر جيشاناً، ومع ذلك كانا يكنان لنا، أختي (ريتا) وأنا، محبة عميقة، ولكن من دون أن يعبّرا عنها خصوصاً ببراهين حسيّة، والصفات التي قد ترسم صورة أهلي كانت القوة والعزم والعناد . أما سكان (كفر ملال) فقد كانوا من الصهاينة العماليين القادمين من التجمعات اليهودية في شرق أوروبا، ليس لإحياء الوطن القومي للشعب اليهودي فحسب، بل لبناء نموذج عن الاشتراكية. أما والدي فقد ترعرع في (برست ـ ليتوفسك) وتلقن على جدي الصهيوني (موردخاي شاينرمان) اللغة العبرية، وخفايا الكتاب المقدس، والفلسفة الصهيونية، وورث عنه الحنين إلى أرض إسرائيل، ولاقتناعه العميق بدعوته كمزارع عنيد في أرض الميعاد، تسجل بعد إنهائه دروسه الكلاسيكية في كلية الزراعة بجامعة تيفليس، حيث تعرف على والدتي فيرا طالبة الطب في الجامعة نفسها، القادمة من موهيلوف على نهر الدنييبر، في روسيا البيضاء. ومع اقتراب جحافل الجيش الأحمر عام 1917 من تفليس تزوج أبي بأمي، وفرا إلى مرفأ باطوم على البحر الأسود، ومنه أبحرا إلى فلسطين . لم يكن والديّ مرفوضين من الآخرين، بل كانا مختلفين، وظل التوتر المستديم بين أهلي وجيرانهم، يلقي بوزره على علاقاتي مع أترابي في القرية . وعهد إلي بأعمال أكثر صعوبة في المزرعة ولما أبلغ الثامنة من عمري، فقد كنت أنزل إلى الكرم في الربيع وأكدن الحصان إلى المحراث، أما في الشتاء فكنت أمضي ساعات طويلة في الإسطبل، وأنا أقدم إلى الحيوانات طعاماً إضافياً، وأحتفظ لنفسي بقرون الخروب التي أضافها والدي إلى العلف . لم يتوقف التوتر بين سكان (الموشاف) وأبناء القرى العربية التي تتوزع بين المستوطنات الزراعية اليهودية، فقد دمرت (كفر ملال) عام 1921، وكادت تتدمر في هجوم عربي آخر عام 1929 وكنت في الخامسة لما ذهبت إلى تل أبيب مع والدتي، أكتشف من نافذة (الأوتوكار) علامات محتملة لوجود الإرهابي (أبي جلدة) المتخصص في نصب الكمائن على طريق أورشليم . ولما بلغت الثالثة عشرة بدأت أقوم بحراسة الحقول في الظلمة، مسلحاً بعصا وخنجر قفقاسي، وكانت أمي تلح على والدي أن يدربها على البندقية الألمانية، التي يحرس بها في الليل، ولما أخذت أكبر بدأت أفهم أن العداوة ليست حكراً على اليهود ضد العرب، بل هي تتحكم باليهود بعضهم مع بعض . وفي الثالثة عشرة التحقت بليسيه تل أبيب، حيث كنت أغازل البنات، وأرنو من النوافذ المفتوحة في البناية المجاورة للمدرسة، وهي فندق يقصده بنات هوى تل أبيب، والجنود الإنكليز . عضو في منظمة الهاغاناه: ولما بلغت الرابعة عشرة لقنت أسرار العمل في الخفاء لصالح منظمة (الهاغاناه) وأقسمت يمين الولاء لها في كوخ صغير على التوراة والمسدس، وأخذت أتدرب على القتال على مقربة من (كفر ملال) على استعمال المسدس والسكين، ثم جاء أعضاء (شرطة القرى العبرية) التي أنشئت تحت مراقبة بريطانية لحماية القرى اليهودية، وأنبوب شركة بترول العراق، ليعلمونا استخدام البندقية والقنبلة والرشاش . كانت الحالة تسوء بين اليهود وسلطات الانتداب بسبب الهجرة اليهودية، وكانت حكومة الانتداب واقعة تحت المطرقة اليهودية والسندان العربي، وبلغ الصراع ذروته عند ما قامت منظمتا (الإرغون) و(شترن) بسلسلة من الهجمات ضد مراكز الشرطة والمواقع العسكرية البريطانية، فيما كانت (الهاغانا) تدمر الجسور، وخطوط السكة الحديدية . أما أنا فقد كنت معجباً بأسرى اليهود الذين أعدمتهم بريطانيا وأحسدهم على شجاعتهم، وأحلم بالثأر للوطنيين اليهود الذين تم شنقهم . ولما يئست بريطانيا من تسوية الوضع عام 1947 أوقفت انتدابها، وفوضت الأمم المتحدة بحل المشكلة، وفيما كانت الأمم المتحدة تعد تحقيقاتها وملفاتها كانت وتيرة تدريبنا تتسارع، وفي تلك السنة تعرفت على مارغاليت (غالي) ابنتة الستة عشر ربيعاً، القادمة من رومانيا. أبيدت فصيلتي في معركة اللطرون: وعندما قرر (بن غوريون) والقيادة العامة للجيش اليهودي تخليص أورشليم باحتلال اللطرون، وإزالة هذا الحاجز من طريقها، أسندت العملية إلى اللواء السابع، وجرى دعمه بواسطة ضباط من وحدتنا (فوج الكساندورني) وكان حظنا الوحيد في البقاء أمام الجنود الأردنيين، في هذه المعركة الصمود حتى الليل، ومحاولة التواري تحت جنح الظلام . وعندما زاد الأردنيون قوة نيرانهم اتكأت على مرفقي رافعاً صدري ورأسي لأرى ما كان يجري، وفجأة أحسست في بطني ضربة عنيفة قذفتني إلى الوراء، وسمعتني أصرخ (ماما !) وفوراً تطلعت حولي خشية أن يسمعني أحد، وكان الدم قد حمر قميصي، وأيضاً بنطلوني، لأني في اللحظة نفسها تلقيت رصاصة أخرى في فخذي، فانبطحت وأنا أشعر أن قواي تغادرني، وكانت أسراب الذباب الأسود تحوم حولنا، وكانت جماعات النمل تتراكض نحونا وقد جذبها دم القتلى والجرحى، وأبيدت فصيلتي تقريباً، حيث توفى نصف رجالي، وجرح معظم الباقين، جراح بعضهم خطيرة . وفيما كنت أستعيد صحتي ببطء دخل وقف إطلاق النار الأول حيز التنفيذ، تحت رقابة الأمم المتحدة، وكان قادة الجيش ينتهزون فرصة وقف إطلاق النار للحصول على مزيد من الأسلحة . عدو لا يرحم : في منتصف تموز 1948 أحسست بتحسن كاف لأنضم إلى وحدتي (الفوج 32) الذي يسيطر الآن على تلة كوليه شمال شرق اللد، وكان الأردنيون قد قاموا قبل عدة أيام بهجوم مضاد، وجد في أرض المعركة ثمان وعشرون جثة، وقد قطعت آذانها، ووضعت أعضاؤها التناسلية في الأفواه، وبقينا عدة أيام نفتش في المنطقة عن الأعضاء المبتورة . رقيت إلى رتبة ضابط استطلاع في الكتيبة، ظللت بعدها أحارب على كل الجبهات خلف خطوط العدو، وساهمت في معارك دامية ضد عدو لا يرحم، ومثل الآخرين لم أكن أعلم ماذا يخبئه الغد لنا: السلام ، أم حرباً جديدة ؟ وفي ايلول 1949 دمج لواء الكساندروني في الاحتياط، فيما رقيت أنا إلى رتبة ضابط استكشاف في لواء غولاني كانت أولى المهمات التي أوكلها إلي (موشي دايان) الذي عين قائداً للمنطقة الشمالية، بصفتي رئيس إستخبارات المنطقة، استرداد جنديين إسرائيليين، أسرهما جنود الفيلق العربي، ونقلوهما إلى عمان للتحقيق، وذلك باختطاف بعض الرهائن الأردنيين للمبادلة، وعندما أنجزت المهمة، لم يخف دايان رضاه . تزوجت (غالي) بلا سقف : استقرت خطيبتي (غالي) في مستشفى بضاحية أورشليم، في نهاية تخصصها كمساعدة في التحليل النفسي، وكنت معجباً بشخصيتها، ولم يطل بنا الأمر حتى تحدثنا عن الزواج، فقصدنا حاخاماً عسكرياً فزوجنا في اليوم نفسه: 29/3/1953 وكنا متزوجين بلا سقف يجمعنا، حيث كانت غالي تسكن في المستشفى الذي تعمل به، وأنا كنت أتقاسم غرفة وحيدة مع صديق في الجيش، ثم توفقنا في إيجاد ما يناسب ميزانيتنا: غرفة صغيرة، مع زاوية مطبخ في الفناء الخلفي لبناية في إحدى ضواحي أورشليم . توليت الوحدة (101) : بعد أسبوعين على غزوة النبي صموئيل، التي نجحت بتنفيذها، استدعيت إلى رئاسة الأركان لمقابلة (موردخاي ماكليف) القائد الأعلى للقوات المسلحة الإسرائيلية، حيث أطلعني على مشروع إنشاء وحدة مضادة للإرهاب، قادرة على ضرب القرى العربية التي تستخدم كملاجئ وحصوناً للإرهابيين، وسألني إن كنت مستعداً لتولي قيادتها، فأعطيت موافقتي، وسمي هذا التشكيل (الوحدة 101) وكان علي البحث عن رجالي من خارج الجيش، نظراً إلى ضعف معنويات الجيش . كلفت بالاقتصاص من قرية قبية: في منتصف تشرين أول 1953 ، استدعيت إلى القيادة العامة لمنطقة الوسط العسكرية في الرملة، أعلمنا قائد المظليين وأنا أن الأركان قرروا الاقتصاص من قبية، قال قائد المظليين أن رجاله لا يزالون دون مستوى المهمة، قلت: أنا مستعد للقيام بالعمل ويسرني أن أتولى قيادة المظليين غير الجاهزين بالإضافة إلى (الوحدة 101) ، أعددت مع الضباط خطط العملية بحذافيرها، وأعطيت الأوامر النهائية، وأكدت للجميع أن المهمة يجب أن تكون أول رد مهم لنا ضد الرعب العربي، لأن شكوانا بالطرق الدبلوماسية لم تعط شيئاً . كانت الأوامر واضحة تماماً، يجب أن تكون قبية أمثولة ومثالاً، فكلف بإيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوف الميليشيات العربية المحلية، ووحدات الدعم الأردنية التي قد تهب للنجدة، وكان علي أن أفجر أهم بنايات القرية، وهي قرابة الخمسين، كان ذلك قراراً سياسياً متخذاً على أعلى المستويات . كنا نريد الاستفادة القصوى من الظلام، تسلقنا الجبال تحت وابل من الرصاص، صرعنا أول جنديين أردنيين عند مدخل القرية، كانا يستقلان سيارة جيب عسكرية، بدأنا عند منتصف الليل تدمير البيوت الحجرية الكبيرة بالديناميت، وكان الجنود يتقدمون من أطراف القرية نحو داخلها، احتجنا عدة ساعات لإنهاء تهديم البيوت، كنا من خلال الانفجارات وغيوم الغبار نسمع من وقت إلى آخر صوت إطلاق أسلحة خفيفة صادرة عن فريق هجوم الإلهاء وراء التلال . عدت إلى منزلي في أورشليم لأرتاح، وما مرت ساعات حتى استيقظت على أخبار الإذاعة الأردنية حول العملية، فقد أكد المذيع مقتل تسعة وستين شخصاً جلهم من المدنيين، وخصوصاً من النساء والأولاد . تبرير المجزرة: ويبرر شارون مجزرة قبية التي هزت ضمير العالم فيقول: جاءت الغارة على قبية لتبرهن أن الجيش الإسرائيلي، بعد كثير من الإخفاقات، كان قادراً من جديد على ضرب العدو أينما كان، حتى وراء حدود بلاده . وبالنسبة إلى الجيش كان معنى هذه العملية كبيراً جداً، فلقد استعاد ثقته المفقودة بعد سنتين من الفشل المتكرر والمثبط . وأهم من ذلك: وجد الشعب الإسرائيلي، بفضل قبية، شعوراً مطمئناً بالحماية من القتلة العرب الذين ظلوا حتى 1953 يتوصلون إلى التسلل إلى كل مكان في البلاد تقريباً . ويسجل رأي (بن غوريون) في المجزرة: ما سيقال في العالم بشأن قبية قلما يهم، فالمهم هو كيف ستفهم في هذه المنطقة من العالم منطقتنا، أعتقد أننا بفضلها سنتمكن من الاستمرار في العيش هنا. انطلاقاً من 1954 نفذ المظليون تقريباً كل العمليات التي قام بها الجيش الإسرائيلي، وبطريقة أو بأخرى كللت كل عملية بالنجاح، وهذا ما أكسبني بنوع خاص جذب انتباه زملائي، فلقائي الأول مع (بن غوريون) سرعان ما تبعته لقاءات أخرى، فبت أشعر بالراحة معه، عندما كنا نعالج مشاكل مهمة، أو حتى عندما تكون زيارتي إياه للمجاملة فحسب . لم يكن الجنرالات يترددون في إبداء شكوى مرة أمام دايان و(بن غوريون) كلما أثارتهم إحدى مبادراتي، وبما أنني لم أكن مستعداً لإغماض العين على بعض ثغرات الجيش كانت تكثر عندهم أسباب الاستشاطة غيظاً . الهجوم على مقر القيادة في غزة: شكل الهجوم على مقر القيادة العامة للجيش المصري في قطاع غزة في 28/2/1955 أهم العمليات التي قام بها المظليون، فعلى الرغم من قيامنا بعدة عمليات ضد المواقع المصرية والأردنية ظل فدائيو قطاع غزة يواصلون زرع الموت والخراب، لا في الجنوب فحسب، بل في وسط البلاد ومن أجل ذلك قررت الحكومة الضرب . ففي ليلة الهجوم وضعت اللمسات الأخيرة على مخططي، وصبيحة اليوم التالي استدعيت الضباط إلى غرفتي الخاصة، وبسطت على الحائط الرسوم البيانية، وشرحت أطوار العملية، وكيفية خداع مراقبي الأمم المتحدة، ثم أصدرت الأوامر، وخرجت لمتابعة الاستعدادات الأخيرة . وبعد انتهاء العملية، عدنا من حيث أتينا، نحمل ثمانية قتلى وأربعة عشر جريحاً، وبعضهم كان في رحلته الأخيرة على أكتاف رفاقهم، وأعلمت قيادتنا العامة بالراديو: نحن في طريق العودة مثقلون جداً . كان (موشى دايان) ينتظرنا، سأل بلهجة جافة: كيف جرت الأمور ؟ أجبته: أنجزنا مهمتنا، ولكن بخسائر فادحة . أجاب بلا مبالاة: الأحياء أحياء، والأموات أموات . ويتابع شارون روايته فيقول: برهنت إسرائيل بوضوح بهذه الإغارة المذهلة أنها لن تتسامح بعد اليوم حيال أعمال الرعب ضد سكانها، ولكن الرئيس المصري فضل البحث عن حلفاء مستعدين للدفاع عنه، والقوة الوحيدة القادرة على تأمين العون العسكري والسياسي الذي كان يسعى إليه هو الاتحاد السوفييتي، الذي لم يكن ينتظر إلا إشارة، فحققنا حلم روسيا منذ مئة عام بالدخول إلى الشرق الأوسط . كلنا يعرف ما كان يقاسيه الأسير الإسرائيلي في السجون العربية بظروفها المختلفة والعذابات التي يخضع لها، فما أن يقع أحد أبناء قومنا في أيدي العدو حتى ألح على وزير الدفاع أو رئيس الوزراء، لأقوم بعملية خطف أسرى نبادل بهم رجالنا، وكانت كل إغارة تسبب خسائر بشرية، وهكذا كنا ندفع ثمناً غالياً لعودة كل من جنودنا، وغالباً ما كان عدد الضحايا يفوق عدد الأسرى، الذين سنحررهم من السجون العربية . وكان موقفي من المسألة صريحاً جداً: إن كل جندي يجب أن يكون مقتنعاً في قرارة نفسه أنه لن يترك وحيداً في الميدان، أجريحاً كان أم أسيراً . نظريات شارون العسكرية: لا زلت أعتقد أن العرب جنود جيدون، واليوم علمتني التجارب أننا لكي نهزم الجنود العرب، علينا أن نفقدهم توازنهم في البدء . وكان تكتيكي يقوم على عدم السماح للعرب بخوض المعركة وفق تصورهم لها، بل على مفاجأتهم دائماً . لقد قالت لنا التوراة: حاربوا بالحيلة؛ وفي كل مرة يجب أن تكون مختلفة، مناورة تفاجئ العدو أو تحط من معنوياته . ليس الهدف هو القصاص من العدو أو ردعه، ولكن الهدف إيجاد نفسية انهزامية عند العرب، بضربهم بلا هوادة، وتكبيدهم خسائر فادحة عمداً، حتى يتخلوا عن إرادة قهرنا . ويخلص شارون إلى نتيجة مفادها: بالنظر إلى العدد المتواضع لشعبنا، وإلى ضآلة مواردنا، لا نستطيع أن نأمل يوماً في خلق توازن قوى من النوع الذي يسمح عادة لأمتين عدوتين بالتعايش، فالوسيلة الوحيدة التي في حوزتنا تقوم على إقناع العرب بعدم جدوى الحرب التي لا تجلب لهم سوى الدمار والخراب والمذلة . على حافة الأزمة : في بداية عام 1955 دفعت الغارات المتواصلة التي قام بها مظليونا، مصر إلى حافة الأزمة، وفي صيف العام أغلق عبد الناصر مضائق تيران، نقطة الاتصال الوحيدة بين إسرائيل من جهة وإفريقية الشرقية وآسيا من جهة أخرى، ومع أن هذه المضائق هي طرق بحرية دولية فإن جمعية الأمم لم تبد اعتراضات جدية، وفي نهاية شهر إيلول أعلن عبد الناصر عقد اتفاق مع تشيكوسلوفاكيا يوفر لمصر الدبابات والمدفعية والطائرات والأسلحة الخفيفة، وكلها من صنع سوفياتي، وهكذا فقد توازن القوى، وبدت قدرة إسرائيل الدفاعية مهددة . قررت الحكومة الإسرائيلية فك حصار المضائق بعملية عسكرية قام بها لواء ضد شرم الشيخ، وهذه العملية من حيث شموليتها من أهم العمليات التي سبق لي أن قدتها، كقائد فعلي للمظليين، لكن تعليمات الأركان كانت تخبئ لي مفاجأة مزعجة جداً: لأن رئيس هيئة الأركان (موشي دايان) فوض إدارة العملية لضابط أعلى هو (الكولونيل حاييم بارليف)، ومن دون تردد أعلمت دايان بنيتي الاستقالة، وكجواب دعاني إلى الغداء في رحبوت، وأوضح أن تعيين بارليف مؤقت تماماً، وليس وارداً أن يحل مكاني، فاقتنعت بكلماته . ولما بدت العملية مشكوك فيها بسبب التعزيزات المصرية التي وصلت شرم الشيخ، ألغيت العملية رغم الجهود التي بذلناها لإتمامها . عملية أوراق الزيتون في طبريا: وفي 10/12/1955 أطلقت المدفعية السورية قنابلها على صيادين إسرائيليين في بحيرة طبريا، فقررت الحكومة الإسرائيلية تدمير المواقع السورية استدعاني (دايان) وشرح لي العملية، فإذا هي عملية معقدة وواسعة النطاق، ولما عدت إلى ضباطي، وأعطيتهم تعليماتي، لمحت وجه (بارليف) وهو جالس في ركن من الغرفة، فإذا به ينم عن الضغينة . تخطى نجاح عملية (أورق الزيتون) كل توقعاتنا، حققنا كل أهدافنا، وأنزلنا بالسوريين خسائر فادحة، وأخذنا منهم ثلاثين أسيرا . تأميم قناة السويس : خلال شهري ايلول وتشرين الأول 1956 بدا كأن الاشتباكات الدموية بين إسرائيل ومصر لا نهاية لها، وفي تلك الحقبة أمم عبد الناصر قناة السويس، فرأى البريطانيون والفرنسيون في هذا الإجراء تهديداً لطرق إمداداتهم البترولية، الحيوية بالنسبة إليهم، وفي مثل هذا الجو العاصف كان (بن غوريون) يتخبط ليحاول إيجاد حل لمشاكل أمن إسرائيل، ولا سيما بعد هجر القادمين الجدد للمناطق الحدودية التي تكون الحزام الدائري للبلاد، على نطاق واسع، بسبب الإرهاب الذي جعل من حياتهم جحيماً حقيقياً . العدوان الثلاثي : وفيما كنا نلحس جراحنا بعد (عملية قلقيلية) توجه (بن غوريون) ودايان وبيريس إلى باريس ليحاولوا عقد محادثات مع فرنسا وبريطانيا، حيث جرى الاتفاق بالجملة على عملية يحقق فيها كل من البلدان الثلاثة أهدافه؛ هدفنا كان سيناء: فك حصار مضائق تيران، وتدمير قواعد الإرهابيين في غزة، وتبديد أحلام الرئيس عبد الناصر؛ أما فرنسا وبريطانيا فيقيمان من جديد سيطرتهما على قناة السويس . بدأت المقولة الرسمية بأن الهجوم إنما هو عملية اقتصاص وليس حرباً حقيقية، واستطاعت وحدتنا أن تصل حيث يجب أن تكون، واستطعنا إعادة تشكيل قواتنا في رتل واحد، واخترقنا خطوط الدفاع المصرية، فسقطت ثمد بعد كونتيلا، ثم قرية نخل بدعم من المدفعية، وتقدم باقي اللواء بسرعة في اتجاه الغرب نحو ممر متلا ومظليي (رفول إيتان) الذين كانوا ينتظرون على بعد مئة وعشر كيلومترات من نخل، حيث استطعنا تحقيق الاتصال معهم بعد ثلاثين ساعة، ودمر طيراننا كل عربات الرتل المصري، وكان يصعب علي أن أصدق أننا اجتزنا مئتين وثلاثين كيلومتراً في عمق شبه جزيرة سيناء . علمنا من الإذاعة في 31 تشرين أول 1956 أن لندن وباريس أصدرتا إنذارهما ـ كما هو متوقع ـ لإسرائيل ومصر على حد سواء، فقبلته إسرائيل، ورفضته مصر، وكان على البريطانيين والفرنسيين أن يباشروا بعملياتهم الحربية، وفي اللحظة ذاتها أفادتنا تقارير طائراتنا الاستطلاعية أن الرتل الآلي المصري يتابع تقدمه باتجاهنا . عززت الوحدات المتقدمة، وجعلت باقي جنود اللواء في وضع دفاعي على جانبي المدخل الشرقي لممر متلا . وقد أحبط المصريون هذا الهجوم بعد اقترابهم، وأخذوا يطلقون النار باتجاه قواتنا المظلية، إلا أننا استطعنا تحديد مواقعهم، وأرسلنا وحدتين عسكريتين بعد هبوط الظلام، على طول السفحين الصخريين للممر، وأخذتا تتقدمان ببطء وتسكتان المغاور الواحدة تلو الأخرى في معركة بالسلاح الأبيض، وانتهت معركة ممر متلا مع إطلالة خيوط الفجر، وقد أحصينا في المغاور والتحصينات على جانبي الممر مئتين وستين جثة مصرية، ولكننا خسرنا أيضاً ثمانية وثلاثين قتيلاً . أثارت معركة متلا غضباً كبيراً وانشقاقات عميقة في صفوف المظليين، أو بين دايان وبيني، وبعد حملة سيناء كلفت لجنة تحقيق، بالحكم فيما إذا كنت تصرفت وفق الأوامر أو أني تجاوزتها، ومن وجهة نظري لم يكن علي أبداً أن أعتذر عما بدر مني، وكانت النتيجة أن اللجنة لم تبت في الأمر، ثم هدأت الضجة، وظلت القضية أهم من أن تنسى . كان الوضع الدولي آنذاك في غليان، فالسوفيات والأمريكيون يضغطون بقوة على لندن وباريس وأورشليم، ومع أن الفرنسيين والبريطانيين أنزلوا قوات بحرية في بور سعيد، وبور فؤاد، إلا أنهم لم يكونوا قد تدخلوا على نحو حاسم . ومع النجاح الكامل لسائر عمليات الجيش الإسرائيلي في الجزء الشمالي من سيناء، وفي قطاع غزة، باتت كل شبه الجزيرة في أيدينا . الأمم المتحدة تفرض الانسحاب : أصدرت الأمم المتحدة وقفاً لإطلاق النار، وفرضت انسحاب القوات الإسرائيلية السريع، وكان على (بن غوريون) أن يواجه مرارة اضطراره إلى التخلي عن ثماره، ومنها القرى التي أمر ببنائها على الحدود بين غزة ومصر . واستغرق اتفاق سحب قواتنا من سيناء شهرين، وقد ملأ الفراغ قوة متعددة الجنسيات من الأمم المتحدة، وخلال هذه الحقبة طفت بمظليينا كل أرجاء الجزيرة، وكنت أريد أن يستوعب الضباط الحد الأقصى لطبوغرافية الأرض، لوقت الحاجة، فليس ما يمنع من أن نضطر يوماً ما إلى الرجوع . لقد سجلنا كل شيء، وشكلنا أكواماً من السجلات الموضحة بخرائط ورسوم تخطيطية، ولوحات وصور فوتوغرافية شاملة . أنجبت زوجتي (غالي) صبياً، أعجوبة في نظري، فقبل سنتين قيل لنا إن غالي لن تنجب أبداً، وبعد ثلاثة أيام أسلم أبي الروح في المستشفى، وكان أبي قد همس لي وهو بين ذراعي، خلال زيارتي الأخيرة له بالمستشفى: إنه لأمر مؤسف أن أكون موشكاً على الموت، فما زلت في حاجة إلى مساعدتي في أمور كثيرة . ماتت (غالي) فتزوجت أختها (ليلي) : وفي أيار 1962 عدت إلى المنزل مصطحباً ابني (غور) إلى المنزل، وعند هبوط الظلام بدأ القلق يستبد بي، ففي مثل هذه الساعة تكون(غالي) قد عادت دائماً من عملها، وجاء جاري بالخبر يعلن موتها بحادث سير، وهي تقود سيارتها الصغيرة. بعد وفاة (غالي) كانت أختها الصغرى (ليلي) تقوم مقام أم لغور، وشيئاً فشيئاً تحولت الصداقة التي تربط بيننا إلى حب عميق، غير مجرى حياتي لأنه أدى بنا إلى الزواج، وتوسعت العائلة بولادة ابننا (أمري) ثم ابننا الثالث (غيلاد يهودا) في القيادة العامة لمنطقة الشمال : وفي نهاية عام 1963 عينني (رابين) في القيادة العامة لمنطقة الشمال العسكرية، وكان هذا التعيين بالنسبة إلي نوعاً من العودة إلى المنزل، فقد خدمت فيها كقائد سرية، وضابط استخبارات، وكانت القيادة العامة في الشمال في مطلع 1964 تجابه ثلاثة مشاكل كبرى هي: الأولى: مشكلة لبنان حيث كادت بيروت أن تصبح مركزاً مهماً للإرهاب، والثانية: الحدود السورية المعقدة، ومواقع الجيش السوري المحصنة في الجولان، والثالثة: المشروع العربي لتحويل مجرى نهر الأردن، الذي يوفر ثلث حاجات إسرائيل من الماء، وهي مسألة حياة أو موت . وعادة يعتبر تاريخ 5 حزيران ابتداء حرب الأيام الستة، ولكن كانت هذه الحرب قد بدأت قبل سنتين ونصف، أي يوم قررت الحكومة الإسرائيلية منع تحويل مياه نهر الأردن بالقوة . رقاني رابين إلى رتبة عميد : دعاني رابين لمقابلته، قال لي رأيه الصريح في طريقة عملي، وعدد لي الأخطاء التي ارتكبتها، ملمحاً إلى علاقتي مع الجنرال دافيد أليعازر، ولشد ما كانت دهشتي عندما سمعته بعد أن أنهى تعداد ذنوبي، يقول إنني على رغم كل ذلك قد رقيت إلى رتبة عميد، وعينت رئيس فرع التدريب في الأركان، وبالإضافة إلى ذلك أوكلت إليّ قيادة فرقة عسكرية إحتياطية عبد الناصر كان متورطاً في اليمن : كانت الجبهة المصرية حتى 14/5/1967 هادئة تماماً، وكانت قوات الأمم المتحدة منتشرة على طول الحدود، ومنذ خمس سنوات كانت قوات الرئيس عبد الناصر متورطة بعمق في حرب اليمن التي لا تنتهي، حيث كان الرئيس يساعد الفريق الماركسي، وفي حال كهذه لم يكن في وسعه أن يخوض معارك حدود معنا . بيد أن التوتر كان ظاهراً خصوصاً على الحدود السورية، وكنا نعلم أن السوريين لعدم استطاعتهم قبول عجزهم أمام الطيران الإسرائيلي، يجرون مفاوضات مع الرئيس عبد الناصر طلباً لدعم عسكري، كما كنا نعلم أن الاتحاد السوفياتي يعطي سورية ومصر معلومات مختلفة تماماً حول حشود قوات إسرائيلية على الحدود السورية، بهدف واضح هو حض الرئيس عبد الناصر على عمل عسكري، ولم يكن أحد يظن أن الدكتاتور المصري سيترك نفسه يندفع في هذه المغامرة، عندما عبرت القوات المصرية القناة ودخلت سيناء . في 19 أيار 1967 خضع (يوثانت) الأمين العام للأمم المتحدة للمطالب المصرية بسحب قوات الأمم المتحدة من شبه جزيرة سيناء . إغلاق مضائق تيران : وفي 22 أيار 1967 أعلن الرئيس إغلاق مضائق تيران أمام السفن الإسرائيلية، وهو عمل كانت إسرائيل قد أعلنت منذ وقت طويل أنه يشكل إعلاناً للحرب، وفي ذلك التاريخ كان قرابة مئة ألف جندي مصري، وأكثر من ألف دبابة قد انتشروا في سيناء . بلغت أزمة الزعامة ذروتها : كنت مقتنعاً بوجوب إطلاق عملية معممة، ونبذ فكرة الإستراتيجية الممتدة على مراحل، وفشل الاقتصار على غزو قطاع غزة مع منطقة محدودة واقعة غربها، وعندما أذاع (أشكول) خطابه إلى الأمة، تلعثم على نحو مؤثر، وتعثر في كلماته، وما أنهى خطابه حتى كانت أزمة الزعامة قد بلغت ذروتها. وقبل أن يخرج أشكول طرح علي سؤالاً: هل تعيين موشي دايان في وزارة الدفاع من شأنه أن يقلب الوضع ويرفع المعنويات ؟ مارأيي في الأمر ؟ لم يكن في هذا السؤال ما يمكنه أن يدهشني، فإيغال آلون كان قد فقد كل حظ باستلام هذه الحقيبة، وكان تعيين دايان وزيراً للدفاع أمراً واقعاً بالفعل . أكدت لدايان أن عدم مهاجمة الجيش المصري دفعة واحدة ينطوي على تبديد للقوى والوقت، وأن واجبنا الإقلاع عن كل صيغة عملية لا تبيد زهرة القوات المصرية، وأن قطاع غزة ليس هدفاً ذا قيمة . وكانت كلمتا السر عندنا: التدريب اليومي والنظام، وأكثر من أي وقت مضى كنت أثق ثقة عمياء بقدراتنا وانتصار قواتنا حرب الأيام الستة : عشية حرب الأيام الستة كانت خمس فرق من أصل سبع فرق مصرية معسكرة في مثلث سيناء الجنوبي، كانت تشكل خطاً دفاعياً يستند إلى استحكامات شديدة التحصين، ووحدات مشاة ودبابات هجوم ومدفعية، ويوجد وراء هذه الاستحكامات فرقتان مصريتان تنتظران على مقربة من (كونتيلا) في الجنوب. وفي مواجهة هذه الحشود المصرية، كانت إسرائيل تملك ثلاث فرق، (فرقة تال، وفرقة يوفيه، وفرقتي) وكانت خطتنا الشاملة تلحظ هجوماً عاماً من مختلف القوى في صباح 5 حزيران، وكان على سلاح الطيران أن يدمر في البداية تجمعات الطيران المصري ومهابطه، وكانت مهمتي أن أندفع بقواتي نحو (أبو رجيلة) وقسيمة، على المحور الأوسط، وكان الهدف الأول لفرقتي فتح المحور المركزي، أي الطريق الموصلة بين بئر السبع والإسماعيلية . أنا لا أرتجل إطلاقاً : وينفي شارون عن نفسه صفة الارتجال التي وصف بها عام 1956 فيقول: أنا لا أرتجل إطلاقاً، وقد يكون العكس هو الصحيح، لقد اعتبرت أن من واجبي أن أرسم خططاً كثيرة التدقيق، تأخذ في الاعتبار أدق التفاصيل، وآخر المواقع، وتشكل كل وحدة مهاجمة على ضوء المشاكل المحددة المدعوة إلى مجابهتها . كانت خطتي المعقدة ترتكز إلى مفاهيم شرحتها وعلمتها طوال سنوات عديدة خلال خدمتي مع المظليين: الالتحام بالسلاح الأبيض، قتال الليل، هجوم المظليين المفاجئ، الهجوم من الخلف، الاختراق على جبهة ضيقة، التخطيط الشديد الدقة، مفهوم العلاقات بين القيادة العامة والقيادة الميداني . عند الساعة الثامنة صباحاً جاء الأمر الذي كنا ننتظره جميعاً: إلى الأمام . وعند منتصف الليل كنا قد احتللنا آخر المراكز المصرية المتقدمة إلى الشرق، وانتشر باقي الفرقة إلى الأمام للهجوم الرئيسي، وغادرت مرصدي لأتابع عن كثب سير العمليات، وبينما كان الجنود يمرون أمامي كنت أراقب وجوههم التي تضفي عليها لوناً ذهبياً أشعة الشمس الغاربة، وهم شاهدوني معسكراً وسط الطريق، وشعرت حيال هذه التظاهرة الصامته بمعنويات من حديد . وعند الغسق فيما كنت أنتظر الساعة س استلمت رسالة من سلاح الجو إذ أرجأت الهجوم إلى الغد . فكرت في الأمر بضع دقائق قبل أن أجيب : كلا ، نهاجم هذه الليلة . وعند الساعة العاشرة ليلاً كانت كل فوهات مدافعنا تصب حممها على الطرف الشمالي للخنادق، وقد أخبر أحد الضباط المصريين الأسرى أنه اعتقد أنه يشاهد حية من نار ممتدة تنقض عليهم . لم أحظ بشرف تحرير أورشليم : وفي المساء وبالقرب من جبل حريم، سمعنا هناك من الإذاعة أن مدينة أورشليم القديمة قد حررت، وفي قلب هذا المشهد المقفر انتابتني فجأة موجة من العواطف المتناقضة، ومن بينها خيبة أمل، فخلال كل تلك السنوات كنت أتعلل بحلم سري: أن أحظى بشرف تحرير أورشليم، لكنني كنت سعيداً أيضاً، فموجات الأثير كانت تنقل لي صراخ فرح المظليين المحاربين الذين عرفتهم عن كثب عندما كانوا بإمرتي . ويتحدث شارون في مذكراته عن اللواء الشبح المهجور الذي تركه المصريون بكامل معداته، وكيف وقعت الفرقة المصرية السادسة في الفخ بجوار نخل، ويصف الصورة الكاملة لوادي الموت، حيث لم يبق للفرقة المصرية السادسة إلا ذكرى حزينة، وينقل إلى القارئ مشهد ممر متلا المزدحم بحطام الجيش المصري تحت سحابة سوداء من الدخان . ويقول: انتهت عملية الجولان بانهيار كامل للدفاعات السورية، لقد أحرزنا على كل الجهات انتصارات جاوزت أهدافنا الأصلية . قائد أعلى لمنطقة سيناء : وصدر أمر رابين بتعييني قائداً أعلى لمنطقة سيناء حيث لا تزال تنتظرنا مهمات عديدة: تنظيف الجبهة، وتجميع الأسرى، ووضع إدارة للمنطقة . في البدء فكرنا بجمع أكبر عدد من الأسرى لنبادلهم بحفنة من الجنود الإسرائيليين المأسورين، ولكن سرعان ما وجدنا أنهم أكثر من أن نستطيع العناية بهم، لذلك قررنا الاحتفاظ بالضباط فقط، أما الجنود العائدون فقد جمعوا ونقلوا إلى مدينة القنطرة على الضفة الشرقية للقناة، حيث اجتازوها على قوارب أرسلتها السلطات المصرية . جمع تبرعات وحملة إعلام : وبعد إقامة قصيرة في سيناء عدت إلى منزلي في تساهالا، وما كدت أذوق طعم الراحة الحقيقي بعد حرمان مديد حتى اتصل معي وزير المال (فنحاس سابير) ليسألني أن أذهب في رحلة جمع تبرعات، مقرونة بحملة إعلام إلى (هونغ كونغ) وأستراليا وإيران . وسرعان ما تحولت الزيارة إلى مؤتمر صحفي دائم، حيث كان جيش من المراسلين الصحافيين يمطرونني بألف سؤال وسؤال عن الحرب والمستقبل . وبعد تسريح رجال الاحتياط عدت إلى الأركان العامة رئيساً لفرع التعليم، فعمدت إلى دراسة منهجية لحرب الأيام الستة، محللا كل معركة وكل عملية مع الضباط ذوي العلاقة، وأعدت تمثيل سياق الحوادث طوراً بطور لاستخلاص كل الأمثولات الممكنة . سيطرة إستراتيجية: ويتحدث شارون عن أمن المناطق التي سقطت بأيدي اليهود فيقول: إن من المهم لتوطيد الأمن في المناطق إرساء نقاط ارتكاز يهودية متينة فيها، وكانت هذه النظرة تنطلق من مسلمة تقول: إن هذه الأراضي هي جزء مكمل لأرض إسرائيل احتله العرب عام 1948 وعلينا الآن أن نعود إليه . ويقول: لم يكن المقصود أبداً أخذ الأراضي الزراعية من العرب، فالمناطق المزروعة الخصبة لم تكن تهمني، فضلاً عن أننا لم نكن بحاجة إليها، وفي المقابل كانت مفترقات الطرق والمرتفعات المشرفة على هذه المناطق ذات أهمية حيوية لنا، وليس من الضروري أن يكون المرء نابغة عسكرياً ليعرف أهمية هذه المناطق الاستراتيجية، فثلثا الشعب الإسرائيلي يعيش في الشريط الساحلي الذي تحيطه هذه المناطق إحاطة السوار بالمعصم . وحول حتمية السيطرة على المناطق الجبلية المشرفة على المنطقة الساحلية يقرر شارون: إن ضرورة الحضور الإسرائيلي في هذه المناطق لا ترتهن في مفهومي لأي حل سياسي، وذلك لأهداف ثلاث: تأمين سلامة الشريط الساحلي الضيق، والدفاع عن السهل الممتد على طول مجرى نهر الأردن، وضمان حماية أورشليم، العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، فهذا هو الحد الأدنى الذي لا يمكننا التخلي عنه، وأنا لم أقبل قط ـ وأشدد على ذلك ـ فكرة التخلي عن أرض حيوية لوجودنا . أتحدر من عائلة صهيونية برغماتية : ويقول بصراحة: أنا أتحدر من عائلة يمكن وصفها بأنها (صهيونية برغماتية)، وهم أناس فهموا أنه في هذا العالم غير الثابت الذي يسوده العنف، لا يمكن المخاطرة بوجود الشعب اليهودي بالاستناد إلى (قصاصات ورق)، فبقاؤنا لا يمكن أن يرتهن فقط بالثقة بحسن إرادة الغير، علينا أن نرسي هذه الثقة على وقائع، على إنشاء البلاد والدفاع عنها. مقتل غور بن شارون : يصف شارون ابنه البكر (غور) بأنه كان صبياً شديد الحسن، ولد رائع من كل الوجوه، كأنه هدية أرسلتها إلي السماء على نحو عجائبي . ويتحدث عن مقتله بطلق ناري من بندقية صيد قديمة صوبها نحوه صبي في يوم عيد رأس السنة العبرية عام 1967 عندما خرج يلعب في حديقة المنزل، وكيف شاهده ممدداً على العشب وفي عينه جرح بليغ، وكل وجهه يغرق بالدم، وعن موته بين ذراعيه وهو ينقله إلى مستشفى (تل هاشومير) فكادت أن تقضي عليه هذه المصيبة في نشوة انتصاره. أعتبر بناء خط بارليف خطأً مريعاً : في بداية أيلول 1967 كان الملوك والرؤساء العرب المجتمعون في الخرطوم قد اتفقوا على ما دعي باللاءات الثلاثة: لا للمفاوضات مع إسرائيل، لا للاعتراف بإسرائيل، لا للصلح مع إسرائيل . وكانت النتيجة العملية والمباشرة لمؤتمر الخرطوم تصعيد جهود الحرب المصرية، وكانت مصر تعمل بسرعة شديدة على إعادة بناء جيشها وطيرانها مع مساعدة كثيفة من الروس، وبدا واضحاً للجميع أن قناة السويس تصبح الآن حدوداً متفجرة . وفي عام 1968 وكرد فعل على قصف المصريين المدفعي المتواصل وعلى مشاريعهم الهجومية تسلم (بارليف) تقريراً من الفريق الذي كلف بدراسة المشكلة، تضمن بناء خط حصين على طول القناة بهدف تأمين الحماية من المدفعية المصرية، وتأمين مراكز مراقبة متقدمة، ومنع المصريين من إقامة رأس جسر في شبه جزيرة سيناء، وإبراز السيطرة الإسرائيلية . وبعد اطلاع (شارون) على التقرير، انتقده بشدة، واعتبره خطأ مريعاً من الناحية السياسية والعسكرية، لأنه يجعل من القوات الإسرائيلية المتحصنة هدفاً مثالياً لنيران المدفعية، ويعرض قوافلها العسكرية للكمائن والألغام، وبين أن معركة دفاعية لا يمكن ربحها على خط خارجي، وأن هذه المواقع لا تسمح بخوض معركة دفاعية حسب الأصول . تفاقم خلافي مع بارليف : غير أن اختلاف الرأي بين (بارليف) وبيني راح يتفاقم، حتى بلغت علاقاتنا التي لم تكن حسنة عتبة الانفصال، حتى جاءتني مخابرة من أحد ضباط الإدارة يستعلم مني عما إذا كنت أرغب في أخذ إجازاتي المتراكمة قبل أن أترك الجيش، أم أفضل قبض قيمتها مع المعاش؟ لم أكن رجلاً يستسلم بسهولة : ذهلت لهذا السؤال، فأجبت: لا رغبة عندي إطلاقاً لمغادرة الجيش، لكن رئيس الأركان (بارليف) رفض تجديد عقدي؛ لم أكن رجلاً يستسلم بسهولة، ولكن إن أجبرت على ترك الجيش يتعين علي أن أواجه المستقبل، فقد كنت في الحادية والأربعين من عمري، وما زال أمامي وقت طويل قبل أن أتقاعد على كرسي مريح، وكلما فكرت في أمر مستقبلي كانت السياسة تراودني، فلدي مثل الجميع طروحاتي . وكان عام 1969 عام إنتخابات، وكنت شكلياً عضواً في حزب العمل مثل والديّ، وكان يفترض بكل ضابط يصل إلى رتبة كولونيل أن ينخرط ضمناً في حزب العمل، فقد كان تسييس الجيش أمراً سوياً . وضعني بيجن على لائحة حيروت : ولم تظهر بوادر صراع عميق بين حزب العمل وكتلة حيروت إلا في نهاية الستينات، وكان موضوع الصراع: الحل السياسي الواجب اعتماده لمشاكل الأراضي المحتلة خلال حرب الأيام الستة، ومنذ ذك الوقت غدت آرائي تقترب من المواقف المعلنة لكتلة حيروت بزعامة (مناحيم بيجن)، وعندما التقيت به في فندق الملك داود بأورشليم تقرر أن نتعاون في سبيل قضية واحدة . وصدرت الجرائد في اليوم التالي تحمل بالخط العريض عنوان: شارون على لائحة حيروت ـ الأحرار؛ وخشية أن أقدم دعماً للائحة حيروت ـ الأحرار، أعادني بارليف إلى الجيش، وكلفي بالتجول في العالم لإلقاء محاضرات، وزودني الجيش بتذكرة طيران دولية . وعندما أعطت الانتخابات بريقاً للجيش ولخارطة البلاد السياسية، ووضعت في السلطة التنفيذية حكومة اتحاد وطني كان (بيجن) من أبرز أعضائها، عينت قائداً لجبهة الجنوب العسكرية، وكانت بؤر العنف الثلاث التي كانت قيادة الجنوب تواجهها أكبر التحديات. * * * *

قراءة في مذكرات أرييل شارون 2-2

قراءة في مذكرات أرييل شارون عرض: محمد علي شاهين الحلقة: (2 من 2) ليس من اليسير قراءة الأحداث الخطيرة على أرض فلسطين قراءة واعية دون الرجوع إلى سيرة رئيس وزراء إسرائيل السابق (آرييل شارون). ومن أجل ذلك رجعنا إلى السيرة الذاتية (لآرييل شارون) التي حررها بالعبرية (دايفد شانوف) ونقلها من الفرنسية إلى العربية أنطوان عبيد، والمنشورة عام 1992 في بيروت في 766 صفحة. ونظراً لأهميتها قمنا باختصارها دون إخلال بمبنى المذكرات ومعناها، ونشر الحلقة الأولى في العدد الماضي من (مجلة الغرباء)، ونشر الحلقة الثانية والأخيرة من هذه المذكّرات. _________________________________________________________ كانت حرب الاستنزاف، والحدود الأردنية، وقطاع غزة، تمثل بؤر العنف الثلاث التي تشكل تحدياً لي بعد تعييني قائداً لمنطقة الجنوب العسكرية، في نهاية عام 1969. البؤرة الأولى: حرب الاستنزاف : كان جنودنا على امتداد القناة يواجهون الموت باستمرار، وفي غياب نظرة شاملة وبعيدة المدى وجدت قواتنا نفسها معرضة للنيران المصرية من دون حماية أو ملجأ، فقررت من تلقاء نفسها بناء المعاقل، واتسعت الإنشاءات الدفاعية مع مرور الوقت، وغدت مصطنعة أكثر فأكثر متحولة إلى خط محصن حقيقي. وعندما تعرضت مواقعنا لنيران المدفعية الثقيلة، وتكبدت قواتنا خسائر جسيمة، تمخض النقاش حول الدفاع عن سيناء، عن بناء اثنين وثلاثين موقعاً محصناً، يكون كل منها قلعة صغيرة قادرة على الصمود في وجه القذائف المصرية، وصرفت أموال طائلة لبناء شبكة دفاعية على امتداد القناة تتضمن غرفاً محصنة، ومزالق للدبابات، ومخازن للتموين والذخيرة، إلخ ؛ هذا النظام الذي كان من المفروض أن يؤمن لنا السيطرة على الممر المائي، والذي عارضته، ودعوت للاستعاضة عنه بمواقع دفاعية على التلال الواقعة إلى الشرق، ومن الطبيعي القول أن لا نية عندي للتخلي عن أفكاري (ويقصد نقد خط بارليف) بل سأستمر في بثها حتى تنتصر. وخلال السنوات الثلاث لحرب الاستنزاف، انشغل جنودنا بإصلاح الأضرار وتحصين المواقع التي دمرتها المدفعية، وكلفتنا الكمائن والغزوات ضد دورياتنا أرواحاً غالية جداً، وعندما تم وقف إطلاق النار في آب 1970 كانت خسائرنا على امتداد القناة قد بلغت 1366 إصابة منها 367 إصابة مميتة، وكان الحاخام الأكبر يزورنا باستمرار، ويصلي مع الجنود، ويقضي الليل معهم. وعندما أطلق المصريون حربهم الإستنزافية كانوا يراهنون على الحساسية المفرطة عند الإسرائيليين لخسارة أرواح بشرية، وكنا على علم بما يراهنون عليه، ولذلك فعلنا المستحيل لنبرهن أن مصر هي أكثر عرضة للتجريح منا، وأن قصفهم المتواصل سيرتد عليهم. ولكي نبين للعدو ما قد تكلفه حرب الاستنزاف هذه، هاجمت طائراتنا ابتداءً من عام 1970 أهدافاً عسكرية في العمق المصري، وسرعان ما ظهر للجميع أن مطارداتنا تستطيع دون أخطار كبيرة أن تخترق الدفاع الجوي المصري. توجه عبد الناصر إلى حلفائه السوفيات متوسلاً إليهم أن يزودوه بالوسائل الكفيلة بمتابعة إهراق الدم في المعسكر الإسرائيلي، وسرعان ما أعطاه الروس الحل بإرسالهم إليه شحنات كثيفة من صوارخ سام 3 المضادة للطائرات، وقد أرفقت بفرق من الخبراء السوفيات لتشغيلها، وبدأ الدور الذي تلعبه موسكو في الصراع يثير القلق، وكان على إسرائيل أن تجابه عسكرياً لأول مرة في تاريخها إحدى القوتين العظيمتين. كان الوضع بالغ الدقة والحساسية، من جهة لم نستطيع غض الطرف عن وضع تصير فيه الجبهة محمية بغطاء جوي سوفياتي يسمح للمصريين بمواصلة قصفهم المدفعي، والإعداد بهدوء لما يسميه الرئيس عبد الناصر بمرحلة التحرير. في 7 آب 1970 لاح حل لهذه المعضلة عندما قبلت إسرائيل ومصر اقتراحاً أمريكياً بوقف المعارك، وأراح وقف النار الفريقين كليهما، فالإسرائيليون كانوا يتكبدون ضحايا يومية على خط بارليف، والقوات المصرية المعسكرة على امتداد القناة كانت أيضاً تتكبد خسائر فادحة. ويكشف شارون سر موافقة عبد الناصر على وقف إطلاق النار الذي أدهش الجميع: ألا وهو نقل منصات صواريخ سام 3 وطواقمها إلى الشرق، دون أن تتعرض لهجوم الطيران الإسرائيلي، فيغدو المجال الجوي فوق القناة محظراً على طائراتنا. كان الوقت يعمل ضدنا، فأسرعت قيادة الجنوب والأركان العامة إلى فتح باب النقاش حول الإجراءات الواجب اتخاذها، فأوصيت أن نجتاز القناة قرب القنطرة، وأن نهدم قواعد صواريخ سام في المنطقة ثم ننسحب، محتفظين برأس جسر صغير على الضفة الغربية، فقبلت الخطة، ووافقت عليها قيادة الأركان. وباشرنا ببناء سلسلة من القلاع على طول التلال الممتدة شرق القناة، وأقمت مراكز قيادة ومراقبة، ومواقع إطلاق نار، وقواعد لوحدات احتياط متقدمة، وأوكار مدفعية، وأطلقت مشروعاً كبيراً لبناء طرقات رئيسية وفرعية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. البؤرة الثانية: الحدود الأردنية : منذ إنشاء الدولة سال دم يهودي غزير على الطريق الرئيسية التي تخترق وادي عربة، فهي تقدم للإرهابيين الظروف المثلى لوضع ألغام ونصب كمائن، وغالباً ما كانت تهاجم العربات ويقتل ركابها، وكانت الكيبوتزات والقرى الزراعية وشركات البحر الميت، تشكل أهدافاً مفضلة للمتسللين، بالإضافة إلى تعرض خط أنابيب النفط الذي يصل إيلات بمدينة عسقلان على شاطئ البحر المتوسط. وتكمن مشكلة حماية هذه المنطقة أنها تكون نوعاً من الأرض المحايدة، وبعض وحدات الجيش والشرطة الأردنية تقيم في الطرف الآخر من الحدود، لكنها في الواقع تتعاون مع الإرهابيين، مسدية إليهم دعماً نشيطاً، وكان لواء سعودي يحرس جبال البحر الميت المقفرة، فعند هبوط الظلام كان الإرهابيون يغادرون قواعدهم، وفي أثناء النهار يختبئون على مقربة من الحدود، وفي الليل يخرجون ويضعون الألغام، وينصبون الكمائن، ويقصفون بالهاون القرى والمؤسسات، ويبقى لهم الليل بطوله ليعودوا إلى قواعدهم في الجبال. قادتني دراسة متعمقة لطرائق عمل الفدائيين إلى الاستنتاج بسرعة أن الدفاع الأكثر فاعلية ضد أعمالهم هو الهجوم، وأنه يجب الحيلولة بينهم وبين بلوغ الحدود، وإذا بلغوها يجب منعهم من العودة سالمين إلى جبالهم، ومن أجل ذلك أرسلت دوريات استكشاف لإقامة مراكز تنصت، ونصب كمائن للفدائيين، فسجلت هجومات الفلسطينيين تراجعاً مذهلاً. ومن جهة أخرى كان وجود القوات السعودية المعسكرة مطمئناً لرجال منظمة التحرير الذين كانوا على قناعة بأننا لن نجسر على الرد تحاشياً للتورط مع القوات النظامية السعودية. فاجأنا السعوديين والإرهابيين في ليل 20 آذار 1970 بقذائف المورتر، ثم هاجمناهم بقواتنا، وقمنا باحتلال قرية الصافي، وخلال ثلاثة أيام ربطنا الصافي بالمنطقة الصناعية في البحر الميت، فلم نعد نخشى عملاً أردنياً أو سعودياً ضد قواتنا الاستكشافية في الجبال، وغدت كمائننا أكثر عمقاً في الأراضي الأردنية، وبات على المتسللين أن ينطلقوا من أماكن أكثر بعداً من الحدود، ودعمت المنطقة الحاجزة على امتداد الحدود بحقول ألغام، وبشريط شائك، وبممر من الرمل الناعم بعرض عشرة أمتار كان يمشط كل يوم فتظهر فيه آثار أقدام كل من يحاول اجتياز الحدود، وكانت الحوامات تشارك في البحث عن المتسللين، وجمعت مئات المتطوعين من بدو النقب، الذين جذبتهم فكرة الخدمة كمتعقبين وكشافة في فرقة جمالين. البؤرة الثالثة: قطاع غزة: كانت بساتين الليمون في قطاع غزة تشكل مخابئ مثالية لخلايا الفدائيين بسبب النمو المفرط للأشجار، هذه الكثافة نجدها على الصعيد البشري في مخيمات اللاجئين، فوسط هذا الجمع الحاشد كان من الصعب جداً التمييز بين رجل ينتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية ومدني آخر، وكنا نعرف أن للمنظمة مقرات مخفية، وشبكة اتصال بين القيادة العليا خارج غزة وفروعها المحلية، وكذلك بين الفروع والخلايا، فبدأ مخبرونا السريون بالتعرف إلى بعض الإرهابيين، فأمرت بتتبعم لاكتشاف غرفهم المحصنة ومخابئهم. جمعت عدداً محدوداً من وحدات المشاة، وبدأت أدرب رجالها على حرب عصابات مضادة للإرهاب، وقسمت قطاع غزة إلى مربعات مرقمة، ووضعت كل مربع تحت مسؤولية زمرة من الجنود، وبدأت أكتشف الغرف السرية، وأنشأت وحدات مختلطة يهود وعرب، واستخدمت كل الخدع الممكنة، وأطلقنا في الأسواق رجالاً من باعة الثمار، وفي مقاهي الرصيف رجالاً من شاربي القهوة التركية، وفي الشوارع رجالاً متنكرين بمكارين يقودون حماراً، وأحياناً كان إرهابيونا يلقون القبض على مشتبه به، فيسحبونه من بيته ويتهمونه بالتعاون مع اليهود، اقتلعت أسيجة الصبير للوصول إلى الملاجئ التحتأرضية وشاغليها، وعمدت إلى توسيع الشوارع تسهيلاً لعمل دورياتنا، واقترحت على لجنة وزارية إنشاء بعض القرى كنوع من العوائق اليهودية، على غرار مستوطنات اليهودية والسامرة، وشرحت لهم على الطبيعة أننا إذا أردنا السيطرة على هذه المنطقة كان علينا أن نؤمن منذ الآن وجوداً يهودياً، وأنه من الضروري إنشاء منطقة حاجزة بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، تقف سداً في وجه عصابات المتاجرة بالسلاح. خطة شارون لحل مشكلة اللاجئين : يقوم جوهر خطتي على التخلص من مخيمات اللاجئين مهما كانت، ويجب إسكان سبعين ألفاً في المدن التي سنبنيها في هذه المنطقة، ونسكن سبعين ألف لاجئ في مدن اليهودية والسامرة، وندمجهم بشكل متناغم في بيئتهم الجديدة. ولنبرهن على حسن نيتنا وعن تعلقنا بالقيم الأدبية، أوصيت باختيار عشرين إلى ثلاثين ألف لاجئ من قطاع غزة ممن لم يكن لهم أي اتصال بمنظمة التحرير، بل ربما كانوا هم أنفسهم ضحايا الإرهاب، لإسكانهم داخل حدود إسرائيل قبل 1967. ويردف شارون قائلاً: بالمناسبة لا أعتقد أن هؤلاء اللاجئين يستحقون أي حق بالعودة، فوضعهم نتيجة حرب هم أنفسهم شنوها، وقد ظلوا في المخيمات بسبب رفض البلدان العربية دمجهم في مجتمعاتهم، فيما كانت إسرائيل تستقبل في ذلك الوقت بذراعين مفتوحين قرابة مليون يهودي اضطروا إلى الهرب أو نفوا من مواطنهم في الدول العربية. ويقدر شارون مشروع تصفية مخيمات اللاجئين بعشر سنوات، ويقترح إجراء تسوية بين أملاك اللاجئين الفلسطينيين، وأملاك اليهود القادمين من الدول العربية، وفق مبدأ المعاملة بالمثل، وإيجاد صندوق لدعم استقرار اللاجئين في دول أخرى. شارون في غزة : خلال سبعة أشهر (تموز1971 ـ شباط 1972) قتلنا 104 إرهابيين، وأوقفنا سبعمائة واثنين غيرهم، عاد سكان هذه المنطقة إلى الحياة السوية، ونجحنا في تثبيت الهدوء، وقطعت القرى اليهودية الطريق على تهريب السلاح، ونجحنا في قطع دابر التسللات عن طريق البحر، وهددت الآباء الذي يرشق أبناؤهم رجالنا بالحجارة بالترحيل إلى الأردن، وطردت ثلاثين رجلاً في مناسبتين فقط. العودة إلى المزرعة : في أحد أيام صيف عام 1972 أعلمني رئيس الأركان (دافيد أليعازر) أنه ينتظر استقالتي، كنت في الخامسة والأربعين من عمري، وهو سن التقاعد في الجيش كما حدده (موشي دايان)، كان عالم السياسة يثير فضولي، لكن مشروع العودة إلى الأرض، والحياة في وسط ريفي كانت تلائمني أكثر. وجدت مزرعة معروضة للبيع في شمال النقب؛ استمالني المكان بجماله الوحشي، وتبايناته العنيفة، وطقسه المتطرف، وكان أحد صهيوني أستراليا قد ابتاع هذه الأرض، ليحقق حلمه في أن يرى ابنه راعياً في إسرائيل، ولكن من أين أحصل على المال لشراء المزرعة ؟ قضيت عمري كله في خدمة العلم، وعشت بالطبع من المرتب المتواضع للضابط المحترف، ويتعذر على شخص مثلي الحصول على قرض شخصي من المصارف لشراء مزرعة، وأخيراً انبرى لمساعدتي يهودي أمريكي اسمه (ميشولام)، تعرفت إليه قبل عدة سنوات في (رامات غان)، وعندما أخبرته بأني سأترك الجيش لأكرس نفسي للزراعة قال لي: لا أعتقد أن في وسع إسرائيل أن تسمح لنفسها بالتخلي عن خدمات رجال مثلك ومثل (عازار وايزمن)، وتابع يقول: لا أظن أن رجالاً مثلكما يجب أن يهتموا بأشغال خاصة، ويتخبطوا بمسائل مالية. هذا الانتقال اللطيف من حياة الجندية إلى حياة الزراعة كما كنت أخطط له انقلب رأساً على عقب في أيار 1972 عندما وردتنا معلومات من أجهزتنا السرية تقول إن مصر تستعد لهجوم واسع النطاق. قررت أن أرسم قبل رحيلي عن الجيش خطة مفصلة لعبور ثالث محتمل شمال البحيرة المرة الكبرى في قطاع (الدفرسوار)، وقلت بوجوب إخلاء التحصينات في حال وقوع هجوم مصري شامل، خشية تبديد قواتنا في محاولتنا الدفاع عنها. وكلما كانت تنخفض حدة التوتر كان موعد تركي الجيش يقترب، وعندما طلبت من رئيس الأركان أن يرجئ رحيلي سنة رفض هو ودايان و(غولدا مائير). ولما طلب منه أن يحدد موعد عشاء الوداع، أجاب بأنه يفضل عدم إجرائه، ذلك لأنه يعتبر منصة التكريم بمثابة منصة الإعدام. تحدي حزب العمل : مشكلة إسرائيل في نظري هي سيطرة حزب العمل خمساً وأربعين سنة على الوكالة اليهودية ثم على الدولة، وتفرده بتنظيم البلاد وفق نظرة إشتراكية محدودة، وكانت كل محاولة لإزاحته عن السلطة محكوم عليها بالإخفاق سلفاً، وباتت شؤون الفساد السياسي أكثر تواتراً وتفاقماً، ولم تقدم الأحزاب الصغيرة الإثني عشر حلاً سياسياً بديلاً ، فقادتني تأملاتي إلى جمع كل هذه الأحزاب الصغيرة في جبهة متراصة، لتحدي حزب العمل والأحزاب الدائرة في فلكه. أطلقنا أنا وبيغن اسم الليكود (الاتحاد) على تحالف أحزاب المعارضة، وكرست شهر آب للتفاوض مع مندوبي الأحزاب الأخرى المعنية، وكانت الاستراتيجية الأساسية للمشروع توحيد كل التشكيلات التي تؤلف الليكود، وتجزئة حزب العمل. عرض علي زعماء كثيرون الانضمام إلى حزبهم وطرحت المسألة عدة مرات خلال المناقشات، لكنني كنت مصراً على البقاء فوق الخلافات، وانتهى بي الأمر إلى الانضمام إلى حزب الأحرار، وعينت رسمياً على رأس القيادة العامة لحملة الليكود الانتخابية. التحقت بفرقتي، وكأنني عائد إلى بيتي: عشية عيد الغفران اتصلت بي القيادة العامة لمنطقة الجنوب العسكرية، وطلبت مني وقف كل نشاط انتخابي، والحضور إلى مكتب فرقتي الاحتياطية. تبينت بعد اطلاعي على صور جوية ووثائق إستخبارية أن المصريين حشدوا قرب الضفة تجهيزاتهم لعبور القناة، واقتنعت بأن معلومات أجهزتنا السرية دامغة ونهائية، فأعلنت جاهزيتي، وفي صبيحة يوم الغفران (يوم كيبور) التحقت بالقيادة العامة لفرقتي، وكأنني عائد إلى بيتي. انفجرت الحرب على جبهتين، وللمرة الأولى منذ عام 1948 ، فقد قام المصريون بهجوم واسع النطاق على طول القناة، وبدأ السوريون يهاجمون بعنف وينقضون بدباباتهم على هضبة الجولان. جمعت قادة الألوية وضباط القيادة العامة لأطلعهم على الوضع، وتابعت حشد الرجال، وقررت أن ألعب ورقة الوقت والسيطرة على آلياتي بإرسالها على جنازيرها، وأصدرت أمراً لكل سرية أن تتجه من المعسكر إلى القناة (على بعد 250 كيلو متراً) حالما تكمل استعداداتها، بعد أن حددت لهم خطوط السير ونقاط التجمع. أخطاء تكتيكية فادحة : دفعنا ثمن غلطنا عندما تركنا المصريين ينقلون صواريخهم (أرض جو) إلى القناة، ولم تنشر وحدات الدبابات على طول القناة، ولم يصدر أمر بإخلاء (تحصينات بارليف) فكان الناجون من الحامية يطلقون استغاثات يائسة، ولم تكن جهود الطواقم مجدية إذ قتلوا جميعاً تقريباً، وخسرنا في اليوم الأول ثلثي الثلاثمائة دبابة المتوفرة في الخطوط الأولى. لم نحصد في اليومين الأوليين من الحرب سوى هزائم، لا نزال خلالهما أن نتذرع بأسباب مخففة: معلومات استخبارية غير كافية وغير دقيقة، تقديرات مغلوطة من وزير الدفاع موشيه دايان، أخطاء مجلس الوزراء، ثم يقول: انقلب ظهر المجن للجيش الإسرائيلي نتيجة أخطاء تكتيكية فادحة، فقد أصيب الجيش الإسرائيلي بعد 1967 بما يشبه هوس الدبابات، المرضي، فأهملت أجزاء الجيش الأخرى، وكانت الصدمة عميقة عندما لم تنهزم القوات المصرية أما الدبابات الإسرائيلية، وكانت النتيجة تلك الهزيمة الساحقة التي أطالت الحرب قرابة أسبوعين، وسببت لنا خسائر ضخمة كنا نستطيع تفاديها، ولست أبالغ قطعاً إذا أكدت أن ثقتي بقيادة الجنوب العامة أو بالأركان كانت شبه معدومة في تلك المرحلة. معركة عبور القناة : تأكدت من وجود ثغرة مفتوحة بين الجيش المصري الثاني في الشمال، والجيش الثالث في الجنوب، وكانت هذه الثغرة فرصة مثالية يجب عدم تفويتها، وكانت الطريق المؤدية إلى القناة مفتوحة على مصراعيها، وكنا في هذه المرحلة قادرين على تنظيم صفوفنا لعبور القناة، وبلوغ الضفة الأخرى، إلا أنهم طلبوا منا التراجع، فامتثلت للتعليمات، واعتمدت تكتيكاً دفاعياً محضاً، ولم أكن مقتنعاً بصوابية هذا التكتيك الدفاعي. وبعد تحطم الدبابات المصرية يوم 14 تشرين أول، قررت هيئة الأركان أنه آن الأوان للتقدم، وسمحوا لنا في الليلة نفسها أن نعبر بفرقتنا من المكان الذي دخلته فرقة الاستكشاف، وكان على المظليين أن يرسوا على الضفة الغربية بقواربهم المطاطية، ويحتلوا القطاع، لإنشاء جسر بين الضفتين، حيث تعبر فرقة عسكرية القناة إلى الأرض المصرية، وتتقدم جنوباً على طول الضفة الغربية للبحيرة المرة حتى قناة السويس. كنت في وسط الميدان، وما شعرت قط بأني معزول، وقد أرسلت المعدات والتجهيزات والوقود والدبابات إلى وجهتها، ولم أعر النداءات المسعورة التي كانت تطلقها القيادة العامة للجبهة: أنتم معزولون ! أنتم مطوقون ! وكان المصريون بحالة صدمة، وكان عليهم أن يفهموا أنهم وقعوا في الفخ. كدت أصفع بارليف على وجهه: وفي مركز التنسيق بين كثبان الرمل على بعد بضعة كيلو مترات من القناة، كان بانتظاري موشيه دايان، وحاييم بارليف، ودافيد أليعازر، وأبراهام أدان، استقبلت بصمت مطلق، وبدون يد ممدودة، وأخيراً فتح بارليف فمه ليقول: الهامش كبير جداً بين ما وعدت به من فعل وما فعلته. وعندما سمعت هذه الجملة، قلت في نفسي: إن الجواب الوحيد على ذلك هو صفع بارليف على وجهه، لقد شعرت بحاجة لا تقاوم إلى توجيه صفعة إليه، ولا أزال حتى اليوم أجهل كيف استطعت السيطرة على أعصابي. عملية تلفزيونية: وعندما وصف الرئيس السادات عملية العبور بأنها عملية تلفزيونية، وإخراج تم لإحداث نتيجة دراماتيكية عابرة، كان الجيش الثالث شبه مطوق، وكانت قواتي على بعد مئة كيلو متر من القاهرة، وقد بلغت أبواب الإسماعيلية. ودخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ مساء 22 تشرين الأول، وحل الصمت بعد ستة عشر يوماُ من الجحيم. لم تتركني السياسة وشأني : تركت كل الاهتمامات غير العسكرية عندما أعلنت التعبئة العامة، غير أن السياسة لم تتركني وشأني، وفي أثناء الحرب لمس الجميع بعدها السياسي، حتى في الأيام التي كانت فيها أرواحنا رهن نهايتها، ولم آت بجديد ولا بمستهجن في جمعي السياسة إلى القيادة العسكرية، فقد ارتقى القادة العسكريون في إسرائيل درجات السياسة كلها، لأن النظام سعى في استمرار إلى وضع ضباط ينتمون إلى حزب العمل في مناصب الجيش المرموقة، فإذا بي أقلب المعهود رأساً على عقب بصفتي رئيساً عسكرياً ورجل سياسة جاء من بين صفوف المعارضة، وسرعان ما أبدى حيالي زملائي العسكريون، وجميعهم تقريباً أعضاء فاعلون في حزب العمل، أو مشمولون برعايته تعارضاً عميقاً. اشتدت معارضتي لحزب العمل : اشتدت معارضتي لحزب العمل بعد حرب أكتوبر لأن قادة الجيش أدخلوا الاعتبارات السياسية في القرارات العسكرية، فأبان الحرب كنت أعتبر سحق المصريين والسوريين أكثر الأمور إلحاحاً، باعتبار أننا سنحظى فيما بعد بمتسع من الوقت لنتجابه في الحلبة السياسية، وكنت أهاجم من كان يسعى للتقليل من أعمال فرقتي، ولم أوافق في مفاوضات جنيف حين عرض حزب العمل موقفه على أنه الحل الوحيد الممكن، ورفضت الشعار الذي طرحه في الانتخابات: من يصوت لحزب العمل يصوت للسلام. انتخبت نائباً في قائمة الليكود: أرجئت الانتخابات إلى 31 كانون الأول فطلب مني قادة (الليكود) أن أستعيد مكاني على رأس حملة الحزب الانتخابية، ولم أكن متشوقاً إلى مغادرة الجبهة، وكنت أفضل البقاء على رأس فرقتي، ومع أنني كنت غائباً فقد حقق (الليكود) 39 مقعداً، وكان أحد المقاعد من نصيبي، وفي نهاية كانون ثاني تركت الجيش لأقسم اليمين في البرلمان، إلا أنني قدمت استقالتي بعد أن أصدر مجلس الوزراء مرسوماً يمنع النائب من أداء مهام ضابط أعلى إحتياطي ميداني، واعتبرت هذا القرار تصفية حسب ضد شارون، ورجعت إلى المزرعة. استولى علي شيطان السياسة: مع اقتراب انتخابات 1977 استولى علي من جديد شيطان السياسة، فقد تصدرت عشية الانتخابات قضايا الفساد، ومخلفات حرب الغفران، وأجمع الرأي أن حزب العمل لم يعد على المستوى الذي يخوله إنجاز مثل هذه المهمة الوطنية، ولم تكن علاقاتي مع ساسة الأحزاب دافئة، وفشلت في توحيد (الليكود) ولم يكن أمامي سوى إنشاء حزبي الخاص، ودعوت الناخبين إلى الانتساب إلى حركة أطلقت عليها: (شلومتسيون) أي سلام صهيون. فشلت في الاتفاق مع (شامير) في ضم حزب (شلومتسيون) إلى (الليكود) ومع ذلك وجه بيكن رسالة إلى الناخبين: إذا أردتم أرييل صوتوا لليكود. وكانت النتيجة انتصار الليكود، وهزيمة حزب العمل، بعد تسعة وعشرين عاماً من السلطة، أما (شلوموتسيون) فقد أحرز مقعدين، وأصبحت إسرائيل أخيراً ثنائية الحزب. وانصهر (شلومتسيون) في حزب (حيروت) وتسلمت حقيبة وزارة الزراعة، وإدارة شؤون الاستيطان. سياسة الاستيطان والاعمار: كانت أولى المشكلات الموضوعة أمامي هي مشكلة المستوطنات، فقد كنت ـ قبل أن أصبح وزيراً ـ أجوب المناطق، وأضع الخطوط العريضة لمشروع يستهدف استثمار الأراضي في اليهودية والسامرة، ولم يخطر على بالي التنازل عنها لصالح الأردن، لأنهما لم تكونا يوماً أرضاً أردنية، فحكاية الاحتلال الأردني هذا كتبها دم اليهود. وخلال اجتماع اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، وبعد بسط خريطة كبيرة لهذه الأراضي، دعوتهم لمواجهة ثلاث مشاكل، الأولى: تتمثل في أمن الساحل الإسرائيلي الضيق الذي بات من الصعب الدفاع عنه وفقاً لحدود 1967 ، وما تشكله جبال اليهودية والسامرة التي تشرف على السهل الساحلي من خطر، وأنه لا بد من تشييد وحدات سكنية مدنية ومجموعات صناعية، على المرتفعات المشرفة على السهل الساحلي. أما المشكلة الثانية فهي: في الحدود نفسها، فمشاكل الدفاع شرقاً تبلغ من الفداحة ما لا تبلغه في أي مكان آخر، وهذا يستلزم بناء خط من المستعمرات على طول طريق وادي الأردن، وسهل بيت شان على البحر الميت، وتشييد قرى أخرى على الروابي، وشق الطرق الشرقية الغربية، على طول المحاور الاستراتيجية. وتتمثل المشكلة الثالثة في القدس، والسؤال المطروح: كيف نحافظ على القدس كعاصمة للشعب اليهودي الأبدية ؟ وكيف نحافظ على أمنها، ونوفر غالبية يهودية فيها ؟ واقترح على اللجنة تشييد سلسلة من المساكن المدنية التي تحيط بالضواحي والأحياء العربية على شكل حدوة حصان. ووافق الوزراء على مشروع الاستيطان الأساسي، وبدأت الجرافات تشق الطرقات، وتعد أماكن القرى، وتلقيت الضوء الأخضر لبناء ثلاث مستوطنات كل شهر، ونزل شبان (غوش ايمونيم) أو كتلة الإيمان معترك العمل. لقد كانت سياسة الاستيطان والاعمار التي اقترحتها وأنا أشغل منصب وزارة الزراعة مستوحاة من مبدأين: الدفاع عن تجمعات البلاد السكنية، وضمان حق اليهود في العيش داخل حدود إسرائيل التاريخية. ضرب المفاعل النووي العراقي : كم رغبنا أنا وزوجتي (ليلي) في تمديد إقامتنا في وادي الملوك الزاخر بآثار فنية تركها الفراعنة، بعد مشاهدة معبد الكرنك بأعمدته المذهلة وكتاباته التي تروي قصة الحملة التي شنها الفرعون لمعاقبة مملكتي إسرائيل ويهوذا في عهد (رحبعهام بن سليمان)، فالكتابات الهيروغليفية تحكي القصة نفسها كما ترويها التوراة، وتذكر أسماء المدن الإسرائيلية التي استولى عليها المصريون، ولكن لا مناص من العودة. فالحكومة الإسرائيلية قررت شن غارة نهار الأحد على المفاعل النووي (أوزيراك) الذي كان لا يزال في طور الإنشاء في محيط بغداد، فعبرت النفق الجديد الذي بناه المصريون حديثاً شمال مدينة السويس، هذا الإنجاز التقني الذي بعث الفخر في نفس السادات الذي أصر على أن أراه بنفسي. وكان الوقت يمر بسرعة قبل شن الهجوم على المفاعل العراقي، بينما كانت الاستعدادات للقاء القمة بين بيغن والسادات في العريش تجري ببطء، أي قبل ثلاثة أيام فقط من التاريخ المحدد للعملية. فقد قررت الحكومة بعد مناقشات مطولة تدمير المفاعل قبل احتدام نشاطه، وكنت أعتبر بعض أعمال جيراننا غير المقبولة لدى إسرائيل خطوطاً حمراء، وحيازة الدول العربية للأسلحة النووية خط من هذه الخطوط، وكنت أرفض منطق توازن الرعب النووي. وفي قاعة مجلس الوزراء بمبنى الكنيست قلت لهم: علينا تدمير المفاعل النووي بكل ما أوتينا من قوة نار، إنها مسألة حيوية بالنسبة إلى إسرائيل. وبعد ظهر الأحد 7حزيران 1980 أقلعت طائرة إف 15 وإف 16 من قواعدها في (أتسيون)، وبعد مضي قرابة نصف ساعة وفيما أصبحت الحدود العراقية على مرأى منها، عقدت الحكومة اجتماعاً في مسكن بيغن، وبينما كانت إمارات التوتر ترتسم على الوجوه، ولا سيما وجه بيغن، زف إلينا بالهاتف (رفول إيتن) نبأ النجاح الباهر الذي أحرزته العملية. ثورة السفرديم : خرج الليكود في انتخابات 1981 منتصراً على حزب العمل بفارق طفيف، ويتمثل العامل الأهم وراء هذا الفوز في نظر شارون بالثورة الثانية التي شهدها المجتمع الإسرائيلي خلال سنوات حكم بيغن الأربع، ألا وهي (ثورة السفرديم) فقد أحس شعب السفرديم الشرقيين أنه أوشك على تحقيق المساواة مع مجتمع (الأشكيناز)، ووجدوا أنفسهم يستفيدون من منافع ويتمتعون بفرص لم يعهدوها من قبل، وفيما راح حزب العمل يتقدم في السن ظهر قادة شبان في صفوف الليكود، تحدروا عموماً من السفرديم. محوت مدينة ياميت : في إطار جلائنا عن سيناء بعد (اتفاقية كامب ديفد)، قبلنا إعادة تجمعاتنا السكنية فيها إلى المصريين، إضافة إلى مدينتي (أوفيرا) و(ياميت)، وكنت أدرك مدى التضحيات التي قدمتها العائلات عندما وافقت على السكن في هذه الأماكن المقفرة، ومدى الاضطراب النفسي الذي سيصيبها بعد قرار نقل سكانها، وعندما أنيط بي تنفيذ القرار تجرعت الكأس المرة. وعرف سكان ياميت الحدودية أسوأ أيامهم، وكان يبلغ عددهم بضعة آلاف، وكانت البنى التحتية التي أنشأناها تلبي حاجات سكان يبلغ عددهم مئة ألف شخص، وكان يطالعك هناك كل ما هو ضروري لجعل الصحراء قابلة للسكن. ولم تكن مصر أو إسرائيل ترغب في وقوع احتكاكات أو نزاعات حدودية بعد عقد اتفاقية السلام، فاقترحت في مجلس الوزراء تدمير مدينة (ياميت) بكل ما فيها من تجمعات تجارية أو صناعية، بدلاً من التخلي عنها للمصريين، وعندما لم أتلق معارضة باشرت التنفيذ فوراً، بعد إخلاء سكانها، ومحوتها حتى أصبحت رمالاً. عارضت مشروع الحكم الذاتي: عندما عرض (بيغن) على مجلس الوزراء مشروع الحكم الذاتي أشرت إلى الأخطار التي يتضمنها هذا المشروع، فهو قد يصبح في نظر الفلسطينيين وعد بلفور، وقد يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية ثانية (إضافة إلى الأردن). تدابير احترازية: علمتنا خبرتنا التاريخية أن التأصل في الأرض وحده قادر على تأمين حقوقنا، ففي اليهودية والسامرة لا تعني المستعمرات مشاريع زراعية، فالأرض الجبلية والصخرية في هذه المناطق لا تلائم مثل هذه المشاريع، علينا إذن بناء مجمعات سكنية مدنية ومناطق صناعية، ولا بد من العيش في هذه المرتفعات كأول تدبير احترازي. أما التدبير الثاني فيتناول مسؤولية إسرائيل الحصرية في ضمان الأمن الداخلي وذلك بضمان حرية التنقل المطلقة للقبض على الإرهابيين، وضمان الأمن الخارجي لهذه الأراضي بأن تشغل القوات الإسرائيلية خط القمم المطلة على المنطقة ابتداءً من الضفة الغربية لنهر الأردن، وحظر دخول الشرطة أو رجال الحكومة الأردنيين أو المصريين. تفسير مشروع الحكم الذاتي: فسر مشروع الحكم الذاتي تفسيرين مختلفين: فالعرب رأوا في الحكم الذاتي مرحلة ستؤدي لا محالة إلى إقامة دولة فلسطينية ثانية، أما تفسير اليهود فكان ممنوحاً وبصراحة وبوجه خاص إلى سكان اليهودية والسامرة وغزة، فنحن لم نقبل قط بمنح الأراضي سيادتها، وفي حين يعتبر العرب أن الأردن وفلسطينيي الضفة الغربية وغزة يجسدون السلطة القانونية التابعة للحكومة المحلية، كنا نعتبر أن الإدارة المدنية الإسرائيلية وحدها تمثل قوة القانون، حتى وإن سحبت قواتها من هذه الأراضي. أنا والنميري والفلاشا : التقيت النميري لأول مرة في أيلول 1981 بعد اغتيال السادات على يد مجموعة من المسلمين المتزمتين، فجاء القادة والرؤساء العرب إلى القاهرة ليشيعوا هذا السياسي العظيم، وكان يمثل إسرائيل وفد ضخم تألف من رئيس الوزراء (مناحيم بيغن) ووزراء الحكومة المصغرة، وما لبثت الوفود أن اختلطت وفق الميول والمصالح، من جهتي وجدتني بالقرب من النميري ذلك السوداني ذي السيماء المتجهمة. وبعد زيارتي لكينيا، كانت السودان محطتي التالية، وخلال حديث لي مع الرئيس السوداني شارك فيه يعقوب نمرودي، وعدنان قاشقجي، وجدت النميري طيب المعشر شديد التهذيب، وفي ذلك اليوم دارت مناقشاتنا حول موضوع آخر كان يتعلق بوجه خاص بالسودان وإسرائيل، وهو في نظري أهم الموضوعات المعالجة، ألا وهو نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، وتساءلت هل هو مستعد ليسمح لهم بالرحيل جواً من الخرطوم ؟ كنت أعرف أننا لن نتمكن من إخراج 28 ألف فلاشا، ولكن قد نتمكن من إخراج عدة آلاف، المهم أننا في غضون سبع سنين (1978 ـ 1884) نقلنا إلى إسرائيل ثمانية آلاف يهودي أثيوبي، فيما بعد قامت عملية أخرى ساهمت فيها الولايات المتحدة، فجاء على إثرها ثمانية آلاف يهودي إلى إسرائيل، وعلى رغم الشكوك والمخاوف التي انتابتنا، اندمج الفلاشا في المجتمع الإسرائيلي ليشكلوا عنصراً منتجاً وإيجابياً. خطة أورانيم أو سلام الجليل: راجعت الخطط العسكرية التي وضعت بعد عملية الليطاني، وعلى غرار كل خطه عسكرية هدفت خطة أورانيم إلى أقصى الطموحات، فتمثل هدفها النهائي بإبادة المراكز العملياتية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهدم بنيتها التحتية على امتداد لبنان، بما في ذلك بيروت، لكن خطة أورانيم حددت سلسلة أهداف وسيطة، وبعد تنقيح الخطة في تشرين الثاني 1981 أصبحت تشمل الأهداف التالية: إزالة خطر الإرهابيين كلياً، وتحييد السوريين، ووضع التجمعات السكنية في شمال إسرائيل خارج مرمى المدفعية، وعدم التعرض للشيعة والدروز والمسيحيين، والانسحاب بعد تحقيق الأهداف، ولا يتمثل هدف العملية بضمان سيادة الحكومة اللبنانية على كامل أراضيها، وتشكل العلاقة مع المنطقة المسيحية في الشمال الشرقي شرطاً ضرورياً لبلوغ الأهداف المذكورة أعلاه. لقائي ببشير الجميل : تلقيت من بشير الجميل دعوة شخصية للمجيء إلى لبنان، وحدد موعد الزيارة في مطلع كانون الثاني 1982 ، وقمنا بتنظيم جدول الرحلة بأدق التفاصيل، وكانت الطائرة المروحية التي أقلعت بنا من تل أبيب تحت جنح الظلام الوسيلة الفضلى للوصول إلى جونية، وبعد عشاء فاخر في أحد منازل جونية، قمنا بجولة سريعة في بيروت، وقمت في اليوم التالي بزيارة مركز قيادة القوات المسيحية اللبنانية في القطاع الشمالي من مرفأ بيروت، وبلغنا قمم الجبال في (بيت مري) وصنين وتوقفنا في بكفيا، ثم عدنا إلى مسكن بشير بحي الأشرفية ببيروت، حيث كان باستقبالنا زوجة بشير، ووالده بيار، وكميل شمعون، رئيس الجمهورية السابق، وكان أحد أفراد الموساد المرافقين يترجم الحديث من الفرنسية إلى العبرية. بعد عودتي قدمت لبيغن وللحكومة المصغرة تقريراً عن زيارتي، واصفاً المواضيع المعالجة بأدق تفاصيلها، وعارضاً انطباعاتي حول مواطن القوة ومواطن الضعف الكامنة عند المسيحيين. عملية سلام الجليل: اعتمد مجلس الوزراء الإسرائيلي في جلسته خطة أورانيم كما قدمت، وصدر الأمر رقم واحد عن هيئة الأركان والمتعلق بهذه العملية: على الجيش الاستعداد لتنفيذ كافة مراحل أورانيم. وارتكزت استراتيجيتنا على إرسال سلسلة من الرسائل الواضحة جداً إلى السوريين، شارحين فيها نيتنا في عدم التعرض لهم، ومحددين الهدف الذي نطمح إليه، ألا وهو إقصاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية المختبئة في قطاعهم حتى مسافة أربعين كيلو متراً من مواقعها الحالية. نهار 6 حزيران تقدمنا باتجاه الأراضي اللبنانية على ثلاثة محاور. المحور الغربي: زحفت دباباتنا على طول الساحل نحو صور. المحور الأوسط: توجهت قواتنا من المطلة إلى النبطية وقلعة شقيف. المحور الشرقي: تقدم جيش الدفاع الإسرائيلي نحو حاصبيا. وفي اليوم التالي وصل (فيليب حبيب) مبعوث الرئيس (ريغن) إلى القدس، فكلفته حكومة (بيغن) السعي لدى الرئيس السوري ليفرض وقف القصف المدفعي الذي تمارسه المناطق الواقعة تحت سيطرة السوريين، والمطالبة بانسحاب فوري إلى ما وراء مرمى مدفعية منظمة التحرير الفلسطينية. وفي 8 حزيران تقدمت قواتنا على طول الساحل مخلفة وراءها (الدامور)، ثم أخذت الشمال الشرقي في اتجاه (عاليه)، في مسعى لقطع طريق بيروت ـ دمشق في وجه السوريين، أما القطاع الأوسط فقد شهد معركة بين قواتنا والقوات السورية الفلسطينية المتحالفة التي أخذت تدافع عن (جزين)، ووافقت الحكومة على فتح محور ثالث في اتجاه الشمال للهجوم على السوريين من الخلف، وإجبارهم على إخلاء (البقاع)، وفي المساء أدخل السوريون ست منصات إطلاق صواريخ سام 6 ووضعوا الفرقة الثالثة في حالة استعداد. بقيت رسائلنا من دون إجابة، وحينئذ أصدرت إلى رئيس الأركان ظهر يوم 9 حزيران أمراً يقضي بتدمير الصواريخ السورية، وفي اليوم التالي اقتحمت القوات الإسرائيلية الخطوط السورية في البقاع. وفي نهاية اجتماع 11 حزيران وافقت الحكومة على قرار وقف إطلاق النار، وورد في نص القرار: حقق الجيش الإسرائيلي المهمة التي كلف القيام بها، وبدءاً من هذه الساعة ستوقف القوات الإسرائيلية إطلاق النار على كافة الجبهات، إلا إذا تعرضت لنيران تلك الجبهات. وعرفت مواقع منظمة التحرير جنوب بيروت وغربها هدنة قصيرة سرعان ما تبعتها رشقات كثيفة وطلقات صاروخية، وبعد الظهر أصدر (رفول إيتان) أمراً بشن هجوم مكثف على مواقع منظمة التحرير، واستأنفت وحدات القطاع الغربي تقدمها. وفي صباح اليوم التالي اتجه أحد الطوابير شمالاً شرقاً إلى (عاليه)، في حين احتل طابور آخر (خلدة)، وأعلمت منظمة التحرير رئيس الوزراء اللبناني بأنها ستقبل وقف إطلاق النار، وشهدت (بعبدا) أول اتصال بين وحداتنا والقوات المسيحية، وبفضل هذا الالتحام أصبحت بيروت محاصرة، وبدأ (فيليب حبيب) الضغط لفك اشتباك القوات. وأصدرت أمراً إلى الجيش لتحسين مواقعه، واحترام وقف إطلاق النار، والتقدم فقط في اتجاه الأماكن الحيوية التي يمكننا الاستيلاء عليها من دون خرق الاتفاق. وفي 24 حزيران وافق مجلس الوزراء على اقتراحي المتضمن شن هجوم يرسخ وجودنا على طريق بيروت ـ دمشق، فقمت بتنفيذ الهجوم في اليوم نفسه، وتمركزت قواتنا في وسط البلاد الاستراتيجي. رحيل عرفات ورجاله عن بيروت: رفضت اقتراح (فيليب حبيب) الداعي إلى نزع سلاح رجال منظمة التحرير، وجعلها منظمة سياسية، قائلا: عليهم أن يرحلوا وإلا سيصار إلى تصفيتهم، فنحن لم يعد في استطاعتنا تقبل عدم رحيلهم، وفي وسعنا تصفيتهم من دون الدخول إلى بيروت. وما دامت المفاوضات التي يديرها الأمريكيون تراوح مكانها، فلم يبق أمامنا سوى خيار دخول بيروت وتصفية الإرهابيين، أو إخضاع الضاحية الجنوبية التي احتلتها منظمة التحرير، أو سيطرة الجيش الإسرائيلي على الأراضي المكشوفة المحيطة بالضاحيتين. واقترحت في مجلس الوزراء عملية تعزل أولاً أحياء صبرا وشاتيلا والفاكهاني، عن سائر المدينة، وعندما يتحقق هذا الفصل ستتمكن قواتنا من احتلال ميدان الخيل، ومنطقة حرج بيروت، فقررت الحكومة اعتماد الخطة المقترحة. واتفق مجلس الوزراء على الآتي: في حال خرق الإرهابيون وقف إطلاق النار سيرد جيش الدفاع الإسرائيلي براً وبحراً وجواً. ولم يمض وقت طويل على هذا التصريح حتى خرقت منظمة التحرير وقف إطلاق النار، فجاء الرد الإسرائيلي قاسياً، واحتلت قواتنا المطار وتقدمت شمالاً، وقام الجيش الإسرائيلي بشن هجوم واسع النطاق، أثار عاصفة داخل الحكومة، وانتقاداً قاسياً من الرئيس الأمريكي (ريغن) ويتابع شارون تطور الأحداث فيقول: وفي ليلة 25 حزيران استخدم (فيليب حبيب) السوط الذي كان بين يديه منذ بضعة أسابيع: وجه إنذاراً إلى منظمة التحرير الفلسطينية قائلاً: على منظمة الرحيل قبول الرحيل عن الأماكن الآن، من دون إقامة منطقة عازلة، ومن دون حماية القوة المتعددة الجنسيات. وأدرك عرفات أنها كانت النهاية، عندما وجد نفسه أمام احتمال بدا وكأنه تصفية وشيكة الحصول، انهار وقرر في الليلة عينها الرحيل مع كافة أتباعه. مقتل الجميل قبل محادثات السلام: وفي 23 آب انتخب مجلس النواب اللبناني بشير الجميل رئيساً للجمهورية، وهو حدث كنا نرجوه من دون أن نكون متأكدين منه، وقمت في شهر أيلول برحلات كثيرة إلى لبنان، ولقيت فيه ترحيباً حاراً، وخلال محادثاتنا مع الرئيس بشير تطرقنا إلى العلاقات المقبلة بين لبنان وإسرائيل، وتلاقت وجهات نظرنا حول هذا الموضوع، وتم الاتفاق على البدء بمفاوضات مباشرة في أسرع وقت ممكن، وشرعنا في درس طبيعة اتفاقية السلام التي نصبو إليها، إلا أن اللقاء المقرر انعقاده لم يتم بسبب الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس بشير الجميل في 14 أيلول. مجزرة صبرا وشاتيلا : كان حل مشكلة بيروت الغربية مهمة صعبة بعد موت الرئيس بشير، فقد أفلح عرفات في نقض بنود الاتفاق عندما بقيت أعداد من رجال المنظمة في بيروت، ولم يسلم أعضاء المنظمة المغادرين ما بحوزتهم إلى الجيش اللبناني، وأعطوا جزءاً من أسلحتهم الثقيلة إلى حلفائهم، في حين خبأوا الجزء الآخر في المستودعات. وبعد أن اطلعنا على التقارير الواردة من بيروت اعتمدنا قراراً يقضي بأن تسيطر القوات الإسرائيلية على بيروت الغربية، وترابط في النقاط الرئيسية، وفي الضواحي، لكنها لن تدخل الضواحي، وطلبت من المسيحيين أن يلعبوا دوراً رئيسياً في حال اندلعت المعارك في بيروت، فنحن لا نريد أن تتكبد قواتنا خسائر في حرب الشوارع، أما البحث عن الإرهابيين فسيكون أكثر فاعلية إذا قام به لبنانيون يتكلمون اللغة العربية، لذا كانت القوات اللبنانية مدعوة إلى دخول بيروت الغربية إلى جانب جيش الدفاع الإسرائيلي. وفي 15 أيلول طرت إلى بيروت، حيث لقيت (رفول إيتان) الذي قال لي أنه تحدث مع قادة القوات اللبنانية، ونسق معهم مشاركتهم في الدخول إلى ضواحي صبرا وشاتيلا، فقد تلقوا أمراً بإعداد تفاصيل عملياتهم مع الجنرال (أميردروري) قائد الجبهة الشمالية. وفي مساء اليوم التالي دخل الكتائبيون إلى صبرا وشاتيلا، لكنني لم أفاجأ لدى سماعي خبر سقوط قتلى، لكن (إيتان) قال: لقد ذهبوا بعيداً. ونقلت الصحافة عن شهود عيان صور المجزرة التي شاهدوها، وكنت أعرف الذين تورطوا في المجزرة، واتضح لي أن ما حدث في صبرا وشاتيلا قد تجاوز المجزرة الطارئة، وتعالت صيحات الاحتجاج، وخرجت المظاهرات تنادي (شارون روتزياخ) أي شارون السفاح، وتداخلت هذه الصيحات مع صيحات أنصاري (أريك ! أريك ! أريك ! ). يقول (دايفد شانوف) الذي حرر هذه المذكرات مع (أرييل شارون) باللغة العبرية: لقد حظيت بتعاون واسع من بعض الإسرائيليين لدى تحريري هذا الكتاب. وقام بترجمة هذه المذكرات إلى اللغة الفرنسية (غبريال روث)، وقام الاستاذ أنطوان عبيد بترجمة النص الفرنسي إلى العربية مشكوراً. صدرت الطبعة الأولى للكتاب في بيروت عن مكتبة بيسان عام 1992، ويقع الكتاب في 766 صفحة من الحجم العادي. نرجو أن تكون الصورة التي رسمها (أرييل شارون) بقلمه في هذه المذكرات قد وصلت إلى القراء الأعزاء، وأن يكونوا قد استوعبوا ما بين سطور هذا العرض الوجيز من دروس وعبر، والحمد لله رب العالمين.(تمت) * * * *

ذكريات مبتعث الى لندن

ذكريات مبتعث الى لندن قـبـل السفر أعيش هذه الأيام أجواء شهر صفر الحارة ، ولكنها لم تخلُ من متعة الشراء والاستعداد للسفر إلى لندن . وهذه الرحلة ليست للسياحة ولكنها رحلة تمثل منعطفاً جديداً في حياتي ( الحصول على شهادة الماجستير). غير أن متعة الاستعداد والتطلع للحياة في مكان جديد لم تدم . يعود ذلك إلى أنني أجريت عملية جراحية فذهب بريق الأحلام و حل مكانه الألم ؛خاصة أن أيام السفر تقترب سراعاً . لقد أشعرني المرض بحالة من الضعف لأول مرة أعيشها بواقعيتها وحقيقتها. قال لي الطبيب : سنجري العملية لك صباح الغد . أخذت أرتجف ونبضات قلبي تزداد . لم أدر كم من الوقت مضى ولكن أيقظوني في تمام الساعة الخامسة فجراً. أخذوني محمولاً على سرير متحرك نحو غرفة مليئة بالممرضين والأطباء والأجهزة . بعد ذلك رأيت أنوار سقف غرفة العمليات تتمايل ، وبعد ثوانٍ لم أعد اعرف أين أنا . أفقت على شعور ألم الجرح ودرجة البرودة تزداد . والدم من فمي لا يزال يخرج . مرّ يوم الإثنين كئيباً ومثله يوم الثلاثاء . أطلت علي الشمس في غرفة المستشفى بأشعتها صباح يوم الأربعاء . رأيت الحياة فيها . رحت أتأملها وأتأمل أشياء الغرفة ، فلقد استقبلتها بفرح كبير . شعرت أنها لبردي دفئاً و لوحدتي صديقاً جاء يواسيني من غير موعد . كان مرضي أول من لامس إطلالتها، واستقبلها بقلب ناره تضطرم في الجوف حزناً وكدراً. الدقائق والساعات والأيام أصبحت تمضي ببطء. بـدايـة الـرحـلـة في ظهر يوم الإثنين 27 / 3 / 1414هـ الموافق 13/ 9 / 1992م ، كانت للخطوط الجوية العربية السعودية رحلة عادية إلى لندن .أما بالنسبة لي فالأمر مختلف تماماً ، فاليوم بداية الرحلة نحو المجهول والاغتراب . اليوم يمثل بداية نقطة تحول في حياتي ، ولم ادر أي أحساس عزيز رافقني منذ الاستعداد للسفر . أهو الإحساس بالمسؤولية والإثارة ؟ أم هو الشعور بالخوف من الغربة و الإخفاق أو كلاهما معاً ؟ هذا المزيج من الشعور ذكرني بما كان يشعر به مارلو ، بطل رواية Heart Of Darkness أو "قلب الظلام " للأديب جوزيف كونراد . لقد كان يشعر قبل سفره إلى المجهول نحو أدغال أفريقيا وتحديداً في الكونغو بشعور يجمع بين الخوف والاشتياق . في ذلك الصباح نهضت باكراً، ولبست بدلة وربطة عنق . نزلت وقد سبقتني حقائبي إلى السيارة . تَجَّمع بعض الإخوة والأخوات عند الباب وعانقتهم مودعاً . وكم تمنيت لو أنني لم أر أمي في زاوية المنزل وهي تبكي . تريد أن تودعني ولكنها تصارع نفسها وخطاها ، فتتقدم خطوة صغيرة إلى الأمام . تريد أن تأتي وأن تلقي عليَّ نظرة الوداع لكنها تغالب خطاها فترجع . وصلت إلى المطار وأخذت أدفع حقائبي الثقيلة . أخذت بطاقة صعود الطائرة ، ثم توجهت وكان برفقتي إلى المطار أبي وبعض إخوتي . كانت الرحلة قرابة الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، وبما أن الوقت لا زال باكراً على موعد الإقلاع جلست مع والدي و إخوتي ممن كانوا يرافقونني إلى المطار في الطابق الثاني. أخذوا يتناولون الشاي والقهوة وبعض الكيك ، أما أنا فلم تكن شهيتي تقبل أي شيء ؛ فنفسي في اضطراب ، وقد كنت متوتراً إلى حد كبير لدرجة أنني كنت اذهب إلى دورة المياه بين فترة وأخرى . ( أخواني كانوا فاطسين علي من الضحك لأنهم شافوا وجهي منقلب وأنا كل شوي أروح وأجي من الحمام أعزكم الله). أعلنت الخطوط السعودية عن رحلتها .... زاد اضطرابي .... قبلت رأس أبي مودعاً ومن ثم ودعت إخوتي . دخلت الطائرة وجلست بالقرب من النافذة وقد انزاح عني في هذه اللحظة شعور التوتر والخوف . هنا أتوقف عن السرد وفي الحلقة القادمة سأتحدث عن الوصول ولماذا أعطتني موظفة حجز الفنادق بمحطة فكتوريا ذلك الفندق بالذات. أخذ المسافرون يملؤون المقاعد ، وملاحو الطائرة يقومون بإرشادهم . أقلعت الطائرة من مطار الملك خالد الدولي متوجهة إلى مطـار " هيثرو " بلندن . جلست بالمقعد قرب النافذه وهذا مكاني المعتاد في الرحلات التي تكون بالنهار . اقلعت الطائرة ورحت التفتُ لأرى آخر لمحة من الرياض التي بدأت تتوارى عن ناظري شيئاً فشيئا .... يا الله! لأول مرة أحس أنني أنفصل عن الرياض ، المدينة التي احتضنتني منذ أن كنت صغيراً إلى هذا اليوم ، و أتوجه نحو مدينة أخرى لا أعرفها . تناولت وجبة الغداء ، وبعدها أخذت المضيفة تمر علينا وهي تقول : water ….water …water قفز إلى ذهني مشهد في فيلم " بعيد وناءٍ " Far and Away . المشهد يتحدث عن علاقة الإنسان بالأرض . فوالد بطل الفيلم جوزيف كان يقول له : " الإنسان لا شيء بدون الأرض ... هي روحه ..هي كل شيء". أخذتُ أفكر بما عليَّ أن أقوم به عندما اصل إلى لندن : الذهاب إلى السفارة السعودية ...التسجيل في الكلية .....التسجيل في الملحقية الثقافية كطالب مبتعث ...البحث عن سكن . قلبت الكثير من الجرائد و بعد تحليق في الجو قرابة ست ساعات مررنا وسط أكوام كبيرة من الغيوم ونحن نهبط تدريجياً . وبعد عدة دقائق بدأت ملامح مدينة لندن تظهر لنا شيئاً فشيئاً ،رأيت منازل متراصة على شكل أكوخ وأسقفها مطلية باللون الأحمر ومساحات شاسعة خضراء . بدء قلبي ينقبض الآن واستمر معي هذا الشعور في كل مرة ازور فيها لندن ولا أدري لماذا؟!! أنهيت إجراءات الدخول و منحوني تأشيرة لمدة سنة بعدما أطلعتهم على الأوراق الرسمية التي معي ولم يستغرق الأمر سوى دقائق بسبب وجود أكثر من 20 موظفاً للجوازات لإنهاء تأشيرات جموع غفيرة من المسافرين وهم بملابسهم المدنية العادية. استلمت حقائبي ... أخذت حقائبي ...واصلت دفع عربتي وخرجت من الممر لأصطدم بمئات الوجوه والألوان الغريبة عني . أبلغت والداي بالوصول بعدها خرجت من المطار. وما ان خرجت حتى صدمني البرد على وجهي فقد كانت درجة الحرارة 16 وهي لواحد من سكان الرياض تعتبر باردة. غصت بين هذه الجموع ....أخذت سيارة أجرة وهي بشكلها وطريقة تعامل سائقها مختلفة عما هي عليه في الرياض . فالحافلة لونها أسود ، وشكلها مميز ، و سائقها يساعدك في حمل الحقيبة ووضعها داخل السيارة . بعدها تغلق الباب وتربط الحزام ثم ، تخبر سائق الأجرة عن وجهتك حيث يقوم بدوره بتشغيل جهاز التسعيرة . وعندنا هنا يقف الهندي بعدما تؤشر له بيدك يفتح نافذته وتبدأ تساومه وما ان تركب تصدم انفك رائحته المميزة التي تدل على انه لم يتروش منذ شهر و ترى قميصه الأبيض وقد تحول الى اللون الأصفر من كثر الزيوت المتساقطة عليه من شعره ومن المستحيل ينزل حتى يشيل معك عفشك. ( ايه الله لنا ) المهم بعد حوالي ساعة وصلت إلى محطة فكتوريا قرابة الساعة السادسة مساءً بالتوقيت المحلي لمدينة لندن . وجدت محطة فكتوريا محطة سفر كبيرة وهي مليئة بالمسافرين والقادمين والمطاعم و البوتيكات . حجزت لي الموظفة غرفة في فندق " لورد هوتـيل " .وضعت حقائبي وخرجت بسرعة لأكتشف هذا العالم الجديد. كن سعيداً عندما مررت بطريق الصدفة بالمحلات التي تبيع المطبوعات العربية والمطاعم العربية. شعرت بالإنتماء نوعاً ما . لقد أحسنت تلك الموظفة الاختيار عندما علمتُ في اليوم التالي أن هذا الشارع هو كوينز واي الذي تكثر فيه الملامح العربية وربما ملامحي العربية جعلت تلك الموظفة تختار هذا المكان على اتساع رقعة لندن وكثرة فنادقها . في صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى مقر السفارة السعودية في كورزن ستريت و سجلت الجواز وحدثني أحد موظفي السفارة السعوديين عن الدراسة في لندن بأنها صعبة ، فتكلفة الحياة المعيشية فيها غالية جداً ،كما لا يوجد بها نادٍ للطلبة السعوديين وعدد السعوديين المبتعثين فيها يعدون على الأصابع. خرجت وأنا أفكر في ما سمعت . شعرت بأني أمام تحدٍ كبير منذ اليوم الأول لقدومي إلى لندن . ابتليت بالمطر . معظم المارة يمشون وهم ممسكون بمظلاتهم خشية الإبتلال بالمطر ما عدى أنا. بعد ذلك ذهبت إلى الملحقية الثقافية السعودية و سجلت من ضمن المبتعثين السعوديين. الـبحـث عـن سكـن + التسجيل في الكلية .... لقد حرصت على المجيء إلى لندن قبل الدراسة حتى أتكيف مع أجواء لندن الصاخبة. كان السكن الذي آمله أن يكون قريباً من الكلية حتى أستطيع المشي إليها دون الحاجة إلى الحافلات أو مترو الأنفاق. ذهبت أولاً إلى نزل للطلبة واسمه Victoria League Hostel فوجدت أن موقعه جيد جداً ويقع في ليستر سكوير . أجابتني مسئولة السكن انه للأسف لا توجد غرفة منفردة فمعظم الطلبة قد حجزوا غرفهم منذ فترة . ذهبت إلى نزل آخر وهو Polish Hostel الذي لم يكن بعيداً عن النزل الأول غير أنه أقرب إلى شارع كوينزواي ولم أجد سكن فيه ايضاً. شعرت بخيبة امل وتعب فعدت إلى الفندق وأنا متعب جداً ورميت بنفسي على السرير وأحسست أنني مقبل على عبء كبير...عبء الغربة ...عبء الوحده ، غير أنني كنت أحس أن هذا المطر الذي لم يتوقف ويطرق نافذة غرفتي وكأنه صديق عزيز يسليني وسط هذه الجموع و البرد . في اليوم التالي ذهبت إلى الكلية لمعرفة موقعها وبالقرب منها يقع University of London Union هذا المبنى عبارة عن مركز تجاري ورياضي لطلاب جامعة لندن ففيه ناد رياضي ومسبح كبير و مكاتب تقدم خدماتها السياحية ومركز تصوير وبنكان هما بنك باركليز و بنك ويست منستر وكافيه ومحل تأجير أفلام. وجدت الكثير من إعلانات السكن معلقة على ألواح الإعلانات وهذه سمة وجدتها هنا . وفي الكلية تجد ألواناً شتى من الإعلانات عن بيع كتب أو تصحيح وطباعة البحوث أو الرغبة في طلب تعلم لغة والإعلان عن المشاركة في سكن مع توضيح سعره الأسبوعي وأقرب محطة مترو أنفاق قريبة له . سجلت بعض العناوين . ذهبت إلى أحدها بعد اتفاق مسبق مع صاحبه وكم كنت أود لو أسكن فيه لأنه قريب جداً جداً للكلية . هو عبارة عن شقة بغرفتين وصالة ومطبخ صغير وصاحبها يطلب من يشاركه السكن للمساهمة في تحمل أعباء المصاريف . كانت الشقة تقع في مبنى ضخم يقع على شارع توتنهام كورت رود بالقرب من محطة مترو أنفاق قودج ستريت ستيشن . عندما فتحت باب المجمع وتوجهت صوب المصعد وجدت أنني اتخذت قراري مباشرة بعدم الرغبة في السكن هنا ؛ فهو مليء بالقاذورات والأوساخ وقديم جداً يشعرك بأنك في نهاية التاريخ بل في نهاية الحياة . فتح صاحب الشقة التي كانت في الطابق الخامس الباب وأخذني في جولة فيها . وجدتها صغيرة و مستهلكة و كل شيء فيها يحتاج إلى تجديد وربما حتى صاحبها . أخذ صاحبها يمتدح بعض الأجهزة التي يملكها . لو كان يعرف ماذا يجري في نفسي لعرف أنني رفضت السكن فيها . اتصلت على صاحب السكن الآخر واسمه سيمون وحدد لي الساعة السابعة والنصف صباحاً موعداً لرؤية الغرفة . ولرغبتي في الحضور في الموعد المحدد ولجهلي بمترو الأنفاق ، فقد استيقظت في تمام الساعة السادسة صباحاً من ذلك اليوم . فتح لي الباب وكانت هيئته تدل على أنه من أصول هندية . المبنى كان عبارة عن بيت فيه الكثير من الغرف وصاحبه يسكنه و يؤجر كل غرفة على حده ودورة المياه مشتركة و المطبخ مشترك أيضاً. راقت لي الغرفة فهي كبيرة و أجارها 70 جنيهاً إسترلينياً في الأسبوع أ ي ما يعادل حوالي 490 ريالاً وهذا لا يشمل فاتورة الكهرباء أو حتى الأكل وغسيل الملابس . وأشار لي سيمون أنه إذا أردت الكهرباء فعلي أن أضع نقودا في العداد الذي يعلو بابها لأن كل غرفة لها عدادها الخاص . كان رقم المنزل 50 و يقع في شارع لويد بيكر ستريت WC1 Lloyd Baker Street بالقرب من فندق هولدي إن ويبعد عن الكلية 12 دقيقة فقط مشياً على الأقدام . وعلى الفور اتفقت مع صاحبها على السكن لمدة سنة ودفعت له أجرة أسبوعين مقدماً وأجره شهر تأميناً على محتويات المنزل . في اليوم التالي سجلت عنواني لدى الشرطة واستخرجت بطاقة إقامه وفيها عنواني وصورتي وغرض الإقامة في لندن ومختومة من الشرطة . رتبت أغراضي لوحدي بعد أن أحضرتها من الفندق ، فهنا لا أحد يساعدك . لا أحد يقدم لك خدمة مجانية ، و عليك أن تقوم بحمل أغراضك مهما ثقلت بنفسك . وهنا بداية تعلمي لدرس الإعتماد على النفس . فالحياة هنا تفرض عليك هذا . كانت الغرفة باردة جداً . طلبت من صاحب المنزل بطانية ولو لهذه الليلة فقط فأجابني بأن عليَّ أن اشتري جميع أغراضي الخاصة. ونمت تلك الليلة متعباً وأنا والله انتفض من البرد. التسجيل في الكلية ..... في ظهر يوم الأربعاء 13 / 4 / 1414هـ الموافق 29 / 9 / 1993م توجهت إلى كليتي وهي كلية الدراسات الأفريقبة والشرقية التابعة لجامعة لندن ويرمز لها SOAS وتقع بالقرب من روسل سكوير وقد لبست ربطة عنق و بدلة جديدة وفوقها معطف ضد المطر ، والحقيقة أن ملابسي أصبحت مميزه ؛ فقد لاحظت وبدون أدنى جهد أن معظم الطلبة هنا لا يهتمون بمسألة الأناقة والمظهر في اللبس فالمهم هو التدفئة بغض النظر عن تناسق الألوان وكنت اعتقد أن الطلبة والطالبات يأتون للجامعة وهـــــم في أحسن مظهر . اتضح لي عكس ذلك فلا رسميات في اللبس ولا شكليات . ولا ينطبق هذا على الطلبة فقط . فقد لاحظت هذا على اغلب الناس هنا في لندن عندما كنت أتجول في شوارع لندن ومتاجرها لتأمين بعض الأغراض وبعض الملابس الثقيلة. ولكن اتضح لي أيضاً ، ومنذ الوهلة الأولى التي وصلت فيها إلى لندن ، معالم النظام في كل مكان ، فالناس تقف في الطابور في المطار وعند إشارات الحافلات ، والبريد ، وغيره كما أنه يوجد اهتمام بالغ بالعمل والجدية فيه واحترام المواعيد ودقتها . والكل مهتم ومنشغل بذاته فقط فلا أحد يضحك على أحد ولا أحد يحدق في الآخرين خاصة داخل الحافلات أو في مترو الأنفاق . تجد أن كلاً منهم مشغولاً بنفسه فهذا يأكل وتلك تقرأ صحيفتها المفضلة. اليوم هو الخميس 14 / 4 / 1414هـ الموافق 30 / 9 / 1993م ، والوقت الآن الظهر وأنا في المكتبة . وبينما كنت اقلب بعض الكتب إذا بمن يضرب على كتفي . سألتني بلغة عربية فصيحة : هل أنت عربي ؟ نعم ! صافحتني وهي تعرفني بنفسها : أنا فلافيا من ايطاليا وتحديداً من باليرمو . أنا هنا لأجمع بعض المعلومات عن بحثي وهو عبارة عن الوجود الإيطالي في دول شمال إفريقيا . ساعدتها في البحث عن الكتب التي أرادتها ؛ فقد نفعتني جولتي مع المرشدة أمس . تناولنا القهوة في محل للقهوة بالقرب من محطة مترو أنفاق روسل سكوير وكنا نلتقي في بعض الأحيان في هذا المقهى بين الحين والآخر . في يوم شديد الغيوم والبرد والمطر كنا في المقهى فطلبت منها أن اقرأ عليها بعض الشعر فراقت لها هذه الفكرة فأخذت أقرأ عليها بهدوء وأنا انظر في عينيها الصحراويتين : عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء .... كالأقمار في نهر (بدر السياب) ولأن لغتها العربية جيدة فقد أعجبها الإيقاع الموسيقي هنا . افترقنا وكان هذا آخر لقاء بيننا الذي لم يدم الا عدةأيام فقط. بداية التأقلم بعدما الاتفاق مع صاحب السكن على الأجر، قمت بتأمين حاجاتي : بطانية وشرشف وغيره وطبعاً لأنني لا أجيد الطبخ فكنت اشتري بعض الوجبات الجاهزة من " تيسكو " وأسخنها في المايكرو ويف . وهذا المايكرويف له قصه معي: مرة وفي الصباح كنت أقوم بتسخين بيض مسلوق فأنفجر داخل الجهاز. خشيت ان يدري صاحب المنزل ولكن الحمد الله وقتها كان قد غادر المنزل باكراً. لو درى كان سوى لي فيها محاضرة. المهم صار لي برنامجي العادي أصحو في تمام الساعة الثامنة الا ربع ...افطر ...استعد للكلية واتجه لها مشياً . بدأتُ بالمواظبة على حضور المحاضرات . تم تسجيل المواد الأربع لي تلقائياً بمجرد دخولي في هذا القسم وهي : الترجمة العملية و نظرية الترجمة و اللغويات العامة و اللغويات المقارنة . كانت أيام الدراسة من يوم الثلاثاء إلى يوم الخميس الذي يعتبر ازحمها في الدراسة . وكم كنت أعود إلى غرفتي وأنا منهك في هذا اليوم. وفي محاضرة " الترجمة العلمية " تنضم إلينا جين الإنجليزية و عبد الرحمن الماليزي وهما من طلاب ما يسمى في نظام الكلية بـ Aerial Studiesوهذا يعني عدم التخصص في مجال واحد ؛ بحيث يمكن للطالب أو الطالبة اختيار أربع مواد متنوعة في عدة مجالات كالتاريخ و السياسة و وغيرها . كان نظام جلوس الطلبة يختلف عمَّا تعودت عليه في جامعة الملك سعود الذي هو عبارة عن صفوف ، أما هنا فكنا نجلس وجهاً لوجه ، فأنت ترى الآخرين ، والجميع يرونك وكأنك في مؤتمر صحفي . وهذا طبعاً يفيد أثناء إثارة النقاش. أما إذا كنت تشعر بالنعاس ، فلا مجال لك للجلوس في المحاضرة . من أمتع المواد عندي مادة " الترجمة العملية " Practical Translation وكان يدرسها الدكتور عبد الحليم وهو من جمهورية مصر العربية وقد تعودنا أن نناديه خلال المحاضرة بــ " أستاذ عبد الحليم " أو " أستاذي " .لاحظت على المحاضرين هنا التواضع والتعامل مع الطالب أو الطالبة بتعامل رفيع وإعطاء الطلبة مجالاً كبيراً للنقاش والمداخلة والاعتراض وإبداء وجهة النظر . كما لاحظت أن الجو التعليمي العام في المحاضرات يهتم ويركز على التحصيل العلمي للطلبة مما يجعلهم يبتعدون عن السؤال عن الدرجات والتركيز عليها كما كنا نفعل في كلية الآداب . من المواد التي كنت أضيق عندما اجلس فيها مادة اللغويات العامة General Linguistics، ويدرسها الدكتور " بينت " . والسبب ليس في المحاضر فهو طيب الخلق ولكن شعوري ذلك يعود إلى كرهي لعلم اللغويات. في المحاضرة كان ( يضيع) وهو يتكلم ويذكرني بالشيخ الطنطاوي الذي يبدأ بالحديث ولا يدري أين ينتهي به المطاف. في هذا المحاضرة كنت أجلس أنا وزميلي عبد اللطيف وهو من المغرب في آخر القاعة ويكون المحاضر في وادٍ ونحن في وادٍ آخر ، ولحسن الحظ فإن المحاضرة كانت مليئة بالطلبة والطالبات مما يجعل المحاضر لاهياً عنا .. مضت بي الأيام هكذا التزام في الدراسة ومحاولة التكيف مع هذا العالم الجديد. من الأمور التي عانيت منها أن الأيام والأسابيع تمضي دون إجراء امتحان لنا وهذا جعلني اشعر بعدم الرغبة في المذاكرة طوال الوقت وذلك بخلاف كلية الآداب في الرياض ، فما أن تمر ستة أسابيع حتى يحل الامتحان الشهري الأول ، وبمرور مثلها ثانية يحل الامتحان الشهري الثاني . كما أنني متخرج من مدرسة أكاديمية تقول إنه إذا أردت الحصول على درجات عالية فما عليك إلا القيام بحفظ ما في المنهج . أما في SOAS ، فالأمر مختلف تماماً ؛ فعليك الدخول في النقاش مراراً و إبداء الأسئلة وطرح وجهة نظرك ، خاصة أن الترجمة تتقبل العديد من الآراء. في صبيحة أحد أيام الثلاثاء ، حضرت إلى محاضرة أستاذي عبد الحليم متأخراً فقد كان سقوط المطر غزيراً ، والجو بارد جداً في ذلك اليوم ولم أستعد له باكراً فأخذت أجري وسط جموع المارة والمطر يبللني والبرد حوَّل أنفي إلى كومة من اللون الأحمر . دخلت القاعة . ألقيت السلام . سألني الدكتور : ــ إيه ما لك اليوم ؟ ــ حبسني حابس يا دكتور . نهضت متأخراً ، وسقوط المطر شديد صباح اليوم ، ولم استعد له . سألني عن طارق وهو زميل من سوريا فقلت له وأعتقد أنه ترك الكلية إن لم يترك لندن ، وسافر عائداً إلى بلده سوريا بسبب الصعوبات التي واجهها في لندن. من الزملاء أمينة مثل طارق فمع مرور الأيام في الكلية بدأ طريقها يأخذ مسار الإخفاق . هي إحدى الطالبات من السودان التي تدرس معنا في هذا البرنامج. كانت ضعيفة في اللغة الإنجليزية واللغة العربية معاً . وأتذكر جيداً في يوم موعد تسليمنا البحوث للدكتور ايدواردز ، التفتت إليَّ في القاعة وسألتني وهي مندهشة : ــ متى أعطانا الدكتور هذا الواجب ؟ وكان هذا سؤالها الروتيني لي دائماً . كان زميلنا عبد اللطيف يواري ضحكته خلف يديه عندما يسمع سؤالها ؛ أما أنا فكنت أمسكها غصباً عني حتى لا تظهر عندما تطرح هذا السؤال الروتيني . لا أدري لماذا اختارت أمينة هذه الجامعة المعروف عنها شدتها وعدم التضحية بسمعتها بمنح الشهادات بسهولة ؟ ،ولا أدري لماذا تختارني لطرح سؤالها المعتاد ؟ . كان من المفروض عليها أن تعرف مستواها أولاً ، ثم تختار البرنامج الذي يناسبها . وما أدهشني أنها كانت حاضرة معنا وقت تحديد مواضيع البحوث ، ولكن يبدو أنها كانت في القاعة جسداً وفي قارة أفريقيا روحاً . ولهذا لا غرابة في أن تجد اسمها من ضمن الراسبين في هذا البرنامج مع نهاية الدراسة في الكلية . وأكاد أجزم أنه لو رأتني وأنا أدخل الكلية في نهاية السنة لاستلام النتائج النهاية فإنها ستقول لي : ـــــ أحمد ... أحمد ... أقيف ..أقيف ... داير أقول ليك شينو ... تعرف الامتحانات النهائية أمتين؟ لم تكن عندي محاضرات في يوم الجمعة ، كما أشرت إلى ذلك ، ولكن بسبب إجراء البحوث و الإطلاع كنت أحياناً أذهب في أيام الجمع إلى الكلية. وكنا الطلبة المسلمين نصلي صلاة الجمعة في قاعة كبيرة من قاعات الكلية في الطابق السفلي ؛ وذلك مع التنسيق مسبقاً مع مسئوليها . نقوم بفرش السجاد ، ثم نضع حاجزاً من كراسي القاعة ليستر المصليات ، ثم يقوم أحدنا ويخطب . بالنسبة لصلوات الأيام العادية كنا نصلي في مجموعات صغيرة جداً في غرفة مكتوب عليها Prayer Room في الدور الثالث . في أحد هذه الأيام ، وبعدما انتهيت من صلاة الجمعة ولأنني انتهيت باكراً من المكتبة ، تقت لتناول كوباً من الكاباتشينو فما وجدت أفضل ولا أحسن من ذلك المقهى الذي كنت أنا و فلافيا نجلس فيه بالقرب من محطة مترو أنفاق"روسل سكوير " Russell Square . تلك الفتاة الإيطالية الوضيئة التي قابلتها في أول أيام الدراسة . يأتي النادل ويضع كوب الكابتشينو ويضع بجانبه الفاتورة . آخذ رشفة. أطلُّ بنظرة عبر الزجاج الذي تحول إلى زجاج ضبابي بسبب تباين درجة الحرارة داخل وخارج المقهى. أرى الوجوه من خلال هذا السديم تضيع في الزحام وتظهر وجوه أخرى . أحاول عبثاً أن أرسم صورتها وسط أشباه المارة ، فما استطعت . كان حضورها بالنسبة لي كالبريق الذي يضيء الأفق للحظة ثم يختفي. أخرج أحد دفاتري وأكتب : حان وقت المساء وتساقط المطر .... تـغـيــير الـسـكن أخذت أيام شهر ديسمبر تتناقص ، ولندن لبست ثوباً آخر ، فترى بعض الأشجار الصغيرة وقد علقت عليها عقود الأنوار المتراقصة وبألوان مختلفة في كل مكان استعداداً للكريسماس أي احتفالات عيد الميلاد . في هذه الأيام ، ونظراً لتوقف الدراسة منتصف هذه الشهر ، قررت تغيير السكن بسبب كثرة المنغصات فيه فلا الهاتف مسموح لنا باستخدامه وهو للنزلاء مجرد جهاز استقبال فقط . و دورة المياه التي أسفل المنزل المسموح لنا باستعمالها بدائية ؛ فكم كنت انتفض من البرد إذا استحممت في هذه الأيام التي تصل درجة حرارتها إلى الصفر . .... وبما أنني لا اطبخ ، فإنني يومياً أخرج لتناول وجبة العشاء . ومما ساعد في رغبتي في تغيير السكن ، سفر شري إلى خارج بريطانيا ، فأخذتها فرصة للبحث عن سكن آخر . تذكرت أنه عندما كنت في الرياض ، أعطاني أحد الزملاء في الإذاعة عنوان سكن للطلبة وهو يمتدحه ويوصي به . قفزت من سريري كالمفزوع. بحثت عنه في أوراقي وجدته . كان يقع بالقرب من شارع قريت بورتلاند ستريت Great Portland Streetوقد سُمِّيتْ محطة مترو الأنفاق القريبة منه باسم نفس هذا الشارع . وعندما خرجت منها ، لم أخطئ مكانه فقد رأيت هذه العبارة International Students House مكتوبة على المبنى بخط كبير وواضح . حاولت أن أعرف مميزات هذا السكن . تجولت بداخله . قرأت لوحة الإعلانات ، ووجدت أنه مليء بالنشاطات . ففيه مطعم يقدم الوجبات الثلاث ، و يعرض فيلماً كل يوم أحد، وفيه يوم الثلاثاء يعتبر يوماً رياضياً فيمكن للطلبة لعب تنس الطاولة وإجراء تمارين الإيروبكس في الدور السفلي من السكن. كما أنه يتيح لغير الساكنين فيه العضوية مقابل رسوم رمزية للاستفادة من تلك النشاطات . ويعتبر هذا السكن تحت الرعاية الحكومية ، فقد افتتحته الملكة الأم إليزابيث رسمياً في 4 / 5 / 1965م . بالنسبة لي ، يعتبر موقعه جيد جداً ، فهو يبعد نفس مسافة السكن الأول عن الكلية وقريب جداً من حديقة ريجنتس بارك الكبيرة . وكساكن دائم Permanent Resident كان أجر الغرفة 80 جنيهاً في الأسبوع لغرفة منفردة ، أي حوالي ( 483 ) ريالاً وعليَّ دفع 300 جنيه إسترليني ضماناً يعود بعد انتهاء فترة السكن . وهذا يعني أن تكلفة السكن لغرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها 3× 4 في الشهر تصل إلى 1932 ريالاً سعودياً و قرابة 23000 ألف ريال في السنة!!!! يا لهذا الغلاء !! أتذكر أنه بإمكاني أن استأجر شقة كاملة في الرياض وفي أحد الأحياء الراقية بأقل من هذا . وافقت على هذا ، ودفعت المبلغ ، وأخبروني أن غرفتي هي رقم ( 111 ) بالدور الأول ويمكنني استلامها في 1 / 1 / 1994م الموافق لـ 19 / 7 / 1414هـ ومع حلول هذه اليوم ، وبعدما جهزت حقائبي وأغراضي ، كان التاكسي يحوم حول البيت قبل الموعد بدقيقتين . وشهدت درساً واقعياً آخر في الالتزام بالمواعيد . وبعدما رتبت أغراضي في الغرفة الجديدة بيومين وشعرت بالارتياح ، إذا بمسؤول السكن يرسل لي ولجاري خطاباً بأن علينا إخلاءها لإعادة فرشها وطلائها . فقد جاء الدور على غرفتينا . شعرت بالعجز ... شعرت بـالامتعاض الشديد.... لأنه هنا لا أحد يقدم لك المساعدة لوجه الله . فإخلاء الغرفة يعني أن عليَّ البحث مجدداً عن بعض الكراتين وملئها بأغراضي ، وإعادة وضع جميع أغراضي صغيرها وكبيرها في الشنط ، ثم حملها وحدي وإفراغها مرة أخرى في مقر السكن المؤقت وبعد الانتهاء من أعمال الدهان والفرش و تركيب الستائر ، عليَّ القيام بهذا المشوار لوحدي من جديد مرة أخرى . وقد علم الله ما كنت عليه من نصب بعد ترتيب أغراضي في الغرفة مرة أخرى . مع مرور الأيام شعرت أن اختياري لهذا السكن كان موفقاً. ففي المساء تكثر فيه حركة الطلبة والأعضاء فيشعرك بالانتماء على عكس السكن الأول الذي ما أن أخرج من الكلية ، حتى أحس و كأنني أمشي في مدينة مهجورة لا أجد أحداً أكلمة ، و إن سنحت الفرصة فسيكون الحديث فقط لشراء أغراض أو وجبة عشاء . أدركت تماماً بأن اللندنيين على قدر كبير من التحفظ وعدم الرغبة للحديث مع الغير . ذهبت إلى قسم الشرطة في توتنهام كورت رود ؛ لأنه الأقرب إلى السكن الجديد لتسجيل عنواني الجديد عندهم . إنني أعتبر أن انتقالي إلى سكن الطلبة هذا هو بداية تأقلمي مع الحياة اللندنية ، واندماجي فيها فأصبحت اقضي وقتاً في لعب تنس الطاولة وأحياناً أشترك في تمارين الإيروبكس الرياضية . كان السكن يقيم مرة في الأسبوع ما يسميه بالبيت المفتوح Open House وفيه يحضر من يرغب من الطلبة والأعضاء ومسؤولي السكن لتناول الكيك و البسكويت مع شاهي . وفي حفلة الشاي هذه تتاح لك الفرصة للنقاش وتبادل وجهات النظر ومقابلة زملاء وأعضاء جدد . وأتذكر جيداً أن أحد ضيوف هذا اليوم كان إدوارد هيث ، وزير الخارجية البريطاني الأسبق ، الذي ألقى محاضرة عن مستقبل اقتصاديات الدول النامية في مسرح السكن . لي زملاء في هذا السكن من غير الكلية أخرج واقضي بعض الأوقات معهم. كان أحدهم يدعى "كنت " من سنغافورة وهو يسكن في نفس الطابق ويدرس التسويق Marketing في جامعة ويست منستر. تعرفت عليه أثناء اشتراكي مع مجموعة من النزلاء والأعضاء في لعب التنس الأرضي في منتزه ريجنتس بارك. كنا في بعض الأحيان نذهب للعب معاً سوية ونستأجر ملعباً في ريجنتس بارك ويكلف استئجار الملعب 4 جنيهات إسترلينية بما يعادل 24 ريالاً للساعة الواحدة .. وليست مشكلة الدفع هي التي تواجهنا بقدر ما هي صعوبة الحصول على ملعب .فالناس هنا تحجز الملعب قبل أسبوع ، وتشتد الزحمة في الصيف بسبب ظهور الشمس وبسبب مباريات التنس الأرضي في ويمبلي التي تثير المشاعر الرياضية لممارسة التنس الأرضي عند البعض . أحياناً يصادفنا الحظ في تأخر بعض من حجز ملعباً فنأخذ الملعب بدلاً عنه . و درجنا على أن نحجز للأسبوع القادم عندما ننتهي من اللعب . ولكم كنت أشعر ببهجة وفرح كبيرين عندما تطل الشمس على أجواء لندن فأخرج للمتنزهات وأرى البريطانيين يفرحون بها . ولكن شعوري نحوها يخالف شعورهم ؛ فهم يرون الشمس كزائر يجب أن يحتفل به ، أما أنا فكنت أراها وكأنها صديق من الأمس جاء ليزورني ، ولهذا علي أن استقبلها بكل فرح وشوق ، فظهورها هنا في وسط هذه الغربة ، أعاد بذاكرتي إلى الوراء ، عندما أجريت عملية في المستشفى قبل وصولي إلى لندن. لا زلت أذكر أنها أدخلت البهجة في نفسي عندما أطلت علي بأشعتها بعد انقطاع عن العالم والناس استمر لعدة أيام. ولهذا أشعر ، بعد أن تلاقينا هنا ، بأن أرد عليها التحية هذه المرة وأن استقبلها بكل ود وترحاب . وأن اجعل من لقاءنا هنا ، لقاء الأحباب في الغربة . ......وعوداً على موضوع الحديث عن الزملاء في السكن ، أذكر منهم " ناوايا " وهو من العاصمة اليابانية طوكيو. وهو يدرس الموسيقى " البيانو " في Trinity College لمدة ثلاث سنوات . كنت أسمع عن اليابانيين شغفهم بالعمل حتى لو زاد عن الحد المعقول . وقد رأيت ذلك حقيقة واقعة في شخص ناوايا ، فخلال أيام الأسبوع تراه مشغولاً بمواد الجامعة ، وفي أيام السبت ، يدرِّس في مدرسة تابعة للجالية اليابانية في لندن ويتقاضى على ذلك 350 جنيهاً إسترلينياً في الشهر أي حوالي 2100 ريال سعودي . أما في أيام الآحاد ، فيذهب إلى مدينة سماها وقد نسيتها الآن لعزف البيانو في كنيسة سويسرية . والكنيسة تدفع له أجرة شهرية إضافة إلى قيمة تذكرة سفره بالقطار . كما أنه جعل لنفسه حياة خاصة فلا نراه إلا في النادر ، وقد ضرب بالنشاطات التي تجري في السكن عرض الحائط . وأتذكر جيداً أنني لم أره في تدريبات الإيروبكس التي تقام مرتين في الأسبوع إلا مرة واحدة فقط . و لا أنسى من الأصحاب البريطاني " زمان " وهو من أصل بنغالي . هو أحد الأعضاء في هذا النزل . وهو طيب الخلق معي . ولكن ما لم يعجبني فيه إصراره الدائم في كل مرة يراني أن يشتري لي مشروباً ؛ وقد أوضحت لي الأيام بمرورها أنه يعاني من عقدة النقصComplex .Inferiorityطرأت لي فكرة أن ابحث في نوعية هذه الشخصية ، فبحثت كثيراً في كتب العلوم النفسية والاجتماعية إلى أن وجدت أن أول من استخدم " النقص " كسمة لبعض أنماط الشخصيات هو الدكتور الفرد أدلر . لقد لاحظ ادلر أن كثراً من المرضى يميلون إلى ربط شكواهم بقصور بعضو معين في أجسادهم ولهذا فقد اكتشف أن الإنسان يتحول إلى المرض لكي يحل مشاكله النفسية. وبالتالي فإن هذا القصور يؤثر على حياة الشخص النفسية فيدفعه إلى تعويض هذا النقص بطرق عديدة. حـياتـي في لـندن .... كان ازحم أيام الدراسة فيها يوم الخميس. فكنت أرى الكلية بممراتها تعج بالطلبة من دول عديدة.وإذا كان الشمس بازغة تراهم يجلسون على درجات السلم الخارجية أو الاستلقاء في الساحة الخضراء بجوار الكلية والكل منشغل بما يروق له. كانت قاعة دروسي في الطابق الخامس ولا يخدم الكلية الا مصاعد ترك الزمن بصماته عليها. ممرات الكلية ضيقة اسمنتية والقاعة صغيرة. وعندما اجلس القي السلام على من سبقني. ....ومن زملاء برنامج الماجستير في الترجمة كما قلت لكم عبد اللطيف من المغرب و ابو ساره و يوسف من مصر و ديمه من سوريا و ميسون فلسطينية ( جنسية مغربية) وأمينه السودانيه و طالبه أخرى نسيتها. ولكن يكبر هذا العدد عند دراسة بعض المواد الأخرى فيدخل معنا طلبة وطالبات من أوروبا لهم اهتمام باللغة العربية. التفت لأرى المنظر خلف نافذة القاعة فأجد ان السماء لا تزال تسح بغيومها لا تزال. يقطع سكون القاعة احياناً اجراس الكنيسة المجاورة. في الدور السفلي للكلية يوجد المطعم وملعب اسكواتش مغلق وقاعات مهيأة لمحاضرات عامة كنت احضر بعضها في المساء. على أية حال مع مضي الأيام ، ألفت لندن ، وغدت مظاهرها لي عادية : زحمة الأقدام السريعة على الرصيف .... ارتداء الملابس الثقيلة ... تتبع أخبار الطقس ....حمل المظلة خشية الابتلال بالمطر ...التطلع للشمس ....الركض للحاق بأوتوبيس أو مترو أنفاق ... الوقوف في الطابور عند المسرح أو في البريد أو في البنك . أصبحت أعيش في هذا النظام كجزء من لوحة كولاج رسمتها الأيام هنا بريشة الاغتراب بكل إتقان و وضوح. أي رأيتني بأنني جزء لا يتجزأ من الحياة العامة في لندن . فمن حيث اللبس أصبحت الأولوية هي التدفئة وليس المظهر . أصبحتُ استخدم محطات المترو في كثير من الأحيان دون الحاجة إلى خريطة أو استفسار من أحد . متحف تيت غاليري بساحة الطرف الأغر ..... أجدني أحياناً ، أنزل عشرات الأمتار ، لأجد أن للندن وجوهاً أخرى . وجه للفن المهمل الباحث عن لقمة العيش باستجداء كرم المارة . وجه مليء بمحطات جوفية متشابكة . وعندما اصل إلى إحداها في باطن الأرض ، أجد أن أناساً قد سبقوني إليها فتتحرك عيناي بشكل عبثي لتتنقل بين صور الدعاية الكبيرة الملصقة على جدار المترو ، وكأنها بذلك تعيد رسم وجه لندن بشكل مغاير . وعندما أمل تلك الصور ، تتحرك عيناي هذه المرة لتبحث عن شاشة توضح موعد وصول القطار القادم . وعندما أحس أن الهواء بدأ يلاعب ملامح وجهي ، أعرف أن القطار قد دنى ، فأقف مستعداً ، وما أن أركبه حتى ينطلق بي مسرعاً . في بعض الأحيان ، لا أجد مقعداً فأظل مثل الواقفين الممسكين بأطراف متدلية من سقفه . وأن جلست ، أطيل النظر في أشباه وجوه الناس التي تعكسها النوافذ الزجاجية للقطار . مع مضي أيامي هنا ، كنت أشعر بصداع يعكر صفو المزاج أحياناً . وعندما عرفت أن سبب صداعي المتجدد بين فترة وفترة هو نقص فيتامين C بسبب غياب الشمس لفترات طويلة و التي كنت قد تعودت عليها في الرياض ، أصبح عصير البرتقال عنصراً أساسياً في كل وجبة إفطار . كما أنني أصبحت اهتم بنشرات الأخبار الجوية لأعرف إن كان المطر سيهطل أم لا ، لأحمل الشمسية معي قبل الخروج . لقد أدى الاغتراب بشقيه الزماني و المكاني إلى أن تتبدل مشاعري نحو المطر . ففي أيامي الأولى في لندن كنت أفرح عند هطوله ، بل إنني كنت أسير في الطرقات والشوارع حتى أجعل المطر يبللني . كنت أحس بأنني أشارك السماء فرحتها بهطول المطر ، وأحياناً أحس أن لندن فرحت بلقائي وما وجدت أفضل ما تقدمه لي اصدق تعبيراً من المطر . منطقة البيكاديللي النابضة بالحياة والآن ومع مرور الأيام ، اتفق مع مذيع النشرة عندما يعلن أسفه بأن يوم غد سيكون ماطراً . ولكم كنت أشعر بضيق وحزن عندما أفتح ستارة غرفتي في الصباح وأجد أن لندن قد بدت صامتة وحزينة ومكتئبة بسبب أن الأمطار لا تزال تعانقها بود مرفوض منذ البارحة . وهذا يعني أن المدلول الروحاني المليء بالفرح و الابتهاج بسقط المطر الذي نشأ في نفسي منذ الصغر في الحارة بالرياض ، قد تغير إلى أن أصار مثار حزن وكآبة واختناق. تجربة صيام رمضان في الغربة دخل عليّ شهر الصيام ونحن في شهر فبراير لعام 1994م بعد أن أنهيت الفصل الدراسي الأول وبدأت الفصل الدراسي الثاني . وقبل حلول هذا الشهر الكريم ، كنت قد ذهبت إلى المركز الإسلامي في ريجنتس بارك لأخذ مواعيد الإفطار والإمساك . أتذكر قبل حلول شهر رمضان، بأسبوع وبعد أن جلس الدكتور عبد الحليم في مقعده المعتاد في القاعة ، بادرته بالتهنئة لقدوم شهر رمضان ثم ألحقت التهنئة بتوجيه اقتراح أن تبدأ المحاضرات من الساعة العاشرة صباحاً بدلاً من التاسعة . تداولنا الاقتراح ولم ننجح لقد كنت أعاني اشد المعاناة في الذهاب إلى الكلية مشياً وأنا صائم . ففي صباح أول يوم من رمضان وفي طريقي إلى الكلية الساعة الثامنة والنصف ، رأيت كل من حولي يأكل ويشرب . أحسست أنني أنا الصائم الوحيد في هذا العالم . كنت أتحاشى المشي خلف المدخنين الذين يمشون أمامي على الرصيف . لقد تغير برنامجي الزمني وكأنني في الرياض . فأصبحت اسرق ما أجده من ساعات النهار خارج الكلية حتى أنام وأسهر حتى حلو. كنت اسهر حتى يحين وقت السحور وأتناول وجبة عبارة عن ساندويتش جبن أو بيض مع كوب من العصير، وهذا هو كل سحوري ، فأصلي الفجر ، ثم أنام قرابة الساعة الخامسة والنصف صباحاً . ثم أعود وأصحو في الساعة الثامنة والنصف وأذهب إلى الكلية وأنا أرى لندن بكاملها ، بناسها وشوارعها ومبانيها وسيارتها ، تتراقص ، وتتمايل أمامي بسبب قلة النوم. وبعد انتهاء المحاضرات في الساعة الثالثة مساءً تقريباً ، أعود إلى غرفتي وأنام ثم أصحو على صوت المنبه الساعة السادسة والنصف فأنزل إلى المطعم لتناول وجبة إفطاري . كنت اتضاحك مع الزملاء وأقول لهم : إنكم تتناولون عشاءكم أما أنا ، فهذه الوجبة هي إفطاري . عندما حل هذا الشهر الفضيل ، حمدت الله أنه لا توجد محاضرات يومي الإثنين والجمعة . ولكن لن أنسى يوم الخميس الذي أعتبره أقسى أيام الأسبوع بسبب كثرة المحاضرات فيه . وكم كنت أرى الكلية تعج بالطلاب في هذه اليوم بالذات من كل أسبوع . في أحد أيام الخميس هذه ، كنت متعباً إلى حد كبير بسبب الصيام وقلة النوم . وبعد الانتهاء من حضور إحدى المحاضرات ، اتجهت إلى إحدى القاعات الصغيرة بالكلية وأقفلت الباب من خلفي ، ورميت نفسي على الأرض بجانب مدفئة الزيت الجدارية ، ثم التحفت الجاكيت البني الذي كنت ألبسه . لم يتطلب الأمر مني سوى ثوان حتى أغوص في نوم عميق . وكم كنت في غاية الدهشة عندما أدركت بعد أن صحوت أنني نمت أكثر من ثلاث ساعات . وعندما خرجت من القاعة ، قرأت جدول المحاضرات المعلق على بابها وعلى الفور وجدت تفسيراً لمحاولات البعض فتح باب القاعة بقوة لحضور المحاضرة المجدولة فيها . إن نومي فيها يعني أنني حرمت الطلبة من حضور الدرس فيها لهذا اليوم ، و لا بد أن الطلبة ومعهم محاضرهم بحثوا عن قاعة بديلة . وبالحديث عن القصص التي حدثت لي في هذا الشهر فإنني لازلت أتذكر أنني سعدت عندما وجه زميلي عبد اللطيف الدعوة لي لتناول وجبة الإفطار معه و (زوجته) الفرنسية مساء غد. استعددت للخروج لهم . ركبت قطار مترو الأنفاق الموشح باللون الأسود أو ما يسميه الناس هنا بالخط الشمالي "Northern Line " متجهاً صوب محطة ستوك ويل Stockwell في جنوب لندن . استقبلني عبد اللطيف وزوجته الفرنسية بترحاب ، وقد وضعت ما أحضرته لهم معي على الطاولة في صالة المنزل الصغير . ولجوعي فقد رحت أتخيل بأنني آكل من أشهى و ألذ الأطباق الفرنسية التي ستقدم وأنا أتبادل الحديث معهما. وعندما دخل وقت آذان المغرب ، جلسنا على طاولة وليس بها سوى جبن وعسل وقطعتين من شرائح التوست المحمر اليابس . أخفيت معالم صدمتي وأنا اشكرهم على حسن ضيافتهم . ركبت قطار مترو الأنفاق ، الذي انطلق بي مسرعاً بطقطقاته المعهودة ، عائداً إلى غرفتي. أخذت استرجع تفاصيل تلك الضيافة وأنا أرى أشباه الناس ، والأنوار من نافذة القطار . لقد شعرت بخيبة أمل كبيرة . ومرد هذا الشعور ليس في غياب الأكل الدسم الذي رسمته في مخيلتي بقدر ما هو إخفاق عبد اللطيف و زوجته في فهم معنى " الإفطار " في رمضان . لقد قادني هذا الموقف في تلك اللحظة بالذات والقطار لا يزال يمشي على عدة محطات إلى إدراك حقيقة وهي إخفاق البعض منا في التعامل مع مصطلح العبادة في الإسلام وإعطاؤه المعنى الظاهر في تعاملاتنا اليومية . شعرت بأن المعنى الدلالي لشهر رمضان ليس في الأكل عند الإفطار ، أو الامتناع عنه في النهار ، أو في تغيير نمط الحياة بقدر ما هو محاولة لإيقاظ الذات من سباتها وجرها نحو ملكوت الله ومحبته من خلال مضاعفة الأعمال الصالحة و تحسس حاجات الفقراء. حلول عيد الفطر السعيد قمت مضطرباً عندما تذكرت زكاة الفطر قبل ليلة فقط من حلول العيد ، فاتصلت بالمركز الإسلامي وأوضح لي أحدهم بأن أضع جنيهين إسترلينيين في الصندوق الموجود أمام مدخل المصلى في الداخل . لبست ملابس رياضية ، وأخذت أجري متجهاً نحو المركز .في ريجنتس بارك . و بعدما وضعت النقود في المكان المخصص لها ، قرأت إعلاناً يشير إلى أن صلاة العيد ستقام غداً أكثر من مرة ، وفي أوقات مختلفة تفادياً للزحمة المتوقعة . ورتبت وقتي على الحضور لصلاة الساعة العاشرة صباحاً . منزه ريجنتس بارك الذي امرعليه كلما أردت الذهاب الى المركز الإسلامي نهضت في صباح يوم العيد ، الذي حل في يوم 13 / 3 / 1994م وتناولت إفطاراً خفيفاً ، ثم لبست بدلة كاملة من قميص وربطة عنق وتعطرت ورحت أمشي إلى المركز الإسلامي . دخل الخطيب وألقى الخطبة باللغتين العربية والإنجليزية . ثم أديت الصلاة مع جموع غفيرة من المسلمين . رفعتُ كفيَّ أدعو الله أن يوفقني في دراستي وأن أعود إلى أهلي سالماً . كما دعوت الله لأمي وأبي و جميع إخوتي . وبعد انقضاء الصلاة ، رأيت الكثير من أفراد الجاليات الإسلامية يهنئون بعضهم بعضاً . خرجت من المسجد . جموع كبيرة رأيتها تخرج أمامي . وجوههم اختلفت عما تعودت أن أراه وسط لندن ولكن بالنسبة لي شعرت وأنا امشي وسطها بأنها أيضاً لا تزال مجرد " مظاهر " . شعرت بالحزن بسبب مرور أول عيد في حياتي وأنا بعيد عن الأهل ... بسبب إحساسي بعدم الانتماء لهذا الجمع الجديد... بسبب أن فرحتي بالعيد لهذه السنة جاءت مختلفة عمَّا كانت عليه عندما كنت في الرياض. ولكن ما لبث أن اختفى هذا الحزن وانزاح أمام إحساسي بأن الفرحة هنا ليس في الفرحة نفسها بوجودي مع ناس أعرفهم بقدر ما هي محاولة للتمتع بالفرحة حتى وإن كنت وحيداً . و من هذا اليوم ، بدأت أتعلم الاستمتاع بالفرحة ذاتياً مهما صغرتْ على الرغم من اختلاف واقع وطبيعة مشاعري الذاتية للمشاعر المحيطة بي بشقيها الزماني والمكاني. وقد تطور هذا الشعور عندي ونما إلى أن تعلمت كيف أضحك أمام الأقارب و الأصدقاء الجلساء من حولي و قلبي يتجرع مرارة الألم كالطير المضروب بالنار يتراقص ألماً ويحسبه الناس أنه يتراقص فرحاً . وبما أن يوم العيد حل يوم الأحد فقد أبدلت ملابسي وذهبت عند الساعة الثالثة مساء لألعب التنس الأرضي في منتزه ريجنتس بارك كعادتي في معظم مساء أيام الآحاد . بهذا انهيت يوم العيد وبذكرى العيد تنتهي هذه الحلقة وقريباً الحلقة القادمه وفيها صراعي القوي مع الحنين والغربة ....... ووداع لندن واصلت اجتماعاتي بالدكتور بروس وواصلت قراءاتي لبحثي الدكتوراه في المكتبة . وبالبحث بين المكتبات ، وجدت عدة ترجمات لمعاني القرآن الكريم . كما أنني ذهبت إلى مدينة ريدنغ التي تبعد عن لندن ساعتين بالقطار لجمع بعض المواد والنصوص من مكتبة جامعتها المسماة باسمها . ومضت الأيام وأنا أواصل البحث والتعمق في القراءة ومن ثم الكتابة. بطبيعة الحال تفرق اصحاب الدراسة فلم اعد ارى منهم احد. ومع تركيزي على البحث قل ايضاً خروجي مع زملاء السكن. احياناً وحتى اخرج من عالم الصمت الذي اعيش فيه اخرج لأتمشى في شوارع لندن فأصبحت مثل طفل راح يلعب فأراد ان يعود الى بيتهم فظل الطريق. .... بقيت على هذه الحالة فصلاً دراسياً كاملاً إلى أن جاءني اتصال من الرياض أزال في لحظة كل مظاهر الفرح للحصول على شهادة الدكتوراه . فلجنة ابتعاث موظفي الدولة التابعة للخدمة المدنية رفضت تمديد فترة بعثتي. وعلى الفور ، أخطرت الكلية بذلك رسمياً. بعد ذلك اتجهت إلى الملحقية الثقافية السعودية حتى أقوم بإنهاء بعض الترتيبات. قمت بتصديق الشهادة . أخبرت زملائي في السكن بأنني سوف أغادر إلى الرياض غداً . ولهذا قررنا أن نقضي هذه الليلة معاً . عندما كنا نضحك ونسترجع أيامنا التي قضيناها معاً ، كنتُ أشعر بمزيج من الحزن والفرح . وكم كنت أتضاحك أمامهم وأنا أبكي في ذاتي على ضياع فرصة الدكتوراه وعلى فراقي لهم . يا لها ليلة من ليالي لندن الكئيبة. أهكذا أيامي فيها تنتهي بهذه السرعة ؟......أهكذا حلمي ، بلا دموع ، يموت في لحظة فأحزن في كل لحظة ألف مرة ؟ خرجنا بعد العشاء للمشي . وعندما وصلنا إلى تقاطع شارع أكسفورد مع شارع غريت بورتلاند ، كان علينا أن نفترق. لم أستطع التحدث . والله غصت الكلمات في حلقي ورفضت الخروج ، وكأنها بدورها لا تريد أن تودعهم. فودعتهم بنظراتي فقط. بكى منهم من بكى . أخذت ألوّح لهم بيدي ، وفي فمي ابتسامة والقلب يعصره ألم الفراق ، في الوقت الذي بدأتُ أبتعد عنهم شيئاَ فشيئاً ، وهم ما برحوا في مكانهم يلوحون مودعين. وما أن أدرت ظهري ، حتى كادت دموعي أن تسقط. بعدما دخلت غرفتي اتجهت صوب نافذتها .ازحت الستارة اخذت أتأمل الماره والمباني والشارع القريب للسكن وكأني أول مره أشاهد هذا المنظر. ..... لم أكن أتخيل أن فراقي للزملاء ولندن سيكون بهذه السرعة و هكذا فجأة . لم اعتقد أبداً في يوم من الأيام أن هؤلاء الأصدقاء إنما هم في الواقع أصدقاء عابرون نظراً للعلاقة القوية التي تربطنا ونحن من أقطار مختلفة . حزمت حقائبي استعداداً للسفر مساء الغد. في مساء الثاني عشر من شهر رمضان المبارك من عام 1415هـ الموافق للحادي عشر من شهر فبراير لعام 1995م ، جاءت سيارة الأجرة في الوقت المحدد لها . اتجهت بي صوب مطار هيثرو . أخذت أنظر عبر نافذة السيارة . يا الله ...لندن تودعيني بشوارعها وبناسها وبمطرها ....ذلك المطر الذي كان بالأمس مثار فزع وكآبة لي أصبح اليوم غير ذاك .....عاد الشوق والحنين إليه بعد أن انفصلا بيني وبينه منذ زمن ... .... و هذا المطر الذي بدا يبلل أيام الغربة ليجعلها تورق من بين حنايا النفس بذكريات لا تنسى على شواطئ الغربة.... ذكريات لن تعود أبداً بحلوها ومرها . أخذت ألقي نظرات الوداع على لندن . أحسست أنها تبكي بالمطر من أجلي... ليتني أستطيع أن أجعل هذا المساء يطول بأمطاره... فلا سفر ..... ولا رحلة ... لكنه الزمن العنيد جعلني أحس أني مخلوق ضعيف يعيش أرذل العمر قبل أوانه ...ضعت في أسئلة الزمان أبحث عن إجابة للغريب الذي كان هنا ، ثم أصبح صديقاً للمدينة هنا ....لمدينة تدعى لندن .... أوَتذكرني لندن بعد أن أغادر ؟ وهل ستذكر أني في أيام مضت ، كنت أخطو في شوارعها بكل فرح وابتهاج ؟ أو يا ترى هل ستذكرني إذا ما عدت إليها من بين ألوف الوجوه التي تركض على أرصفتها ؟ ما أصعب الفراق ولكنها النهاية ...الانتهاء ....وموسم العودة إلى ارض الوطن . أخذت أدحرج حقائبي على إحدى العربات في الصالة رقم 3. وبعدما أنهيت إجراءات السفر ، مررت عبر بوابة المغادرة ، و قضيت الوقت في التجول في السوق الحرة وهو سوق تجاري به العديد من المحلات التجارية الكبيرة ، ولا يخضع للضرائب وعلى المشتري إبراز بطاقة الصعود في بعض الأحيان ؛ لأن الخصم لا يمنح إلا للمسافرين فقط . بعدها اتجهت صوب بوابة الخطوط السعودية . بعدما أقلعت الطائرة في رحلة تستغرق ست ساعات، بدأت لندن تتوارى عن ناظري شيئاً فشيئاً خلف ضبابها الرمادي الداكن المعتاد ....لندن التي تعلمت منها الانضباط واحترام المواعيد ....لندن التي منحتني ، وعبر رحلة إلى المجهول منها ومن شخصيتي أن اكتشفها وأكتشف من أنا ....لندن التي عودتني على الاعتماد على نفسي .... على تحمل الآلام وأنا أمشي بين طرقاتها وناسها .... لندن التي منحتني الفرصة حتى اعرف كيف أن أحب وإن اختلفت اللغات . ترى ، ماذا سيفعل هذا الزمن بذكريات المرض والحنين والشوق للأهل ؟ ماذا سيفعل بدموعي التي سقطت غصباً عني في يوم بل في لحظة حزن وأنا غريب هنا ؟ ماذا سيبقي لي من أيام الضحكات عندما كنت أنا والأصدقاء نمشي عبر شارع البيكاديلي أو ميدان الطرف الأغر؟ أدركت في هذه اللحظة فقط أن للندن ألف وجه وأنها منحتني أجمل وجه . أعلن أحد ملاحي الطائرة أن علينا ربط الأحزمة استعداداً للهبوط . شعرت بأن الطيار اختصر الطريق وكأن الزمان أراد أن يصالحني . وعند خروجي من صالة القدوم الدولية بمطار الملك خالد الدولي ، شاهدت أبي . قبلت رأسه بحرارة ، عانقت إخوتي. تذكرت يوم وداعي لهم في بداية البعثة ، فبدت هذه الأحداث والذكريات والمواقف المتقلبة بين الحزن والفرح والمرض في لندن و كأني عشت أيامها بين عشية أو ضحاها ، أوكأنها كانت مجرد حلم لتوي أستفيق منه . ما اقسى الوداع ....اراه كالنهاية التي تثير فينا الدموع غصباً عنا . كنت تقرأين الأسطر وتبحري فيها كطبيب مداوي يبحث عن مرض وسط جسم يراه الناس متعافياً. ووجدتيه وعرفت فعلاً اصدقائي الذين اتخذتهم هناك. نعم سكون الليل اشعة الشمس والمطر ولعلي اضيف اليك احد اصقائي وهو الحزن هم صدقوني ....رافقوني.....مدوا اكفهم عندما كنت ابكي وظهر على محياهم الارتياح عندما كنت ابتسم وانا امشي في طرقات لندن وامشي لأجعلني ابتل بالمطر. اتعلمين اني ايضاً اشفقت على نفسي عندما نمت بجانب المدفأة. احسست وقتها كطفل جائع يبحث عن صدر حنون ولم يجده. صدقيني اذا قلت لك ان لندن فعلاً علمتني كيف اواري حزني وراء ملامحي وانا بين الناس وعندما اكون وحدي لا اكف عن اذرف قطرات الحزن . لندن احبها احبها .... اتعلمين انها اهدتني اول ....لي وان اختلف اللغات بيني وبينها . من اسبانيا كانت ولكن هناك لغة كانت اقوى من جميع المسافات ....لغة الإلتقاء في الغربة اتمنى لك التوفيق في دراستك ولحظة انتظرها ان تطلي من خلف سحب اوكرانيا ولكن يا ترى متى ....متى....متى؟